الأحد - 08 أيلول 2024
close menu

إعلان

أمام الأشلاء

عقل العويط
عقل العويط
A+ A-

أشلاء البكارة


تعجبني الصفقات الإقليمية والمحلية، وخصوصاً منها ما يتظهّر في عبارة "حكومة الشراكة الوطنية"، التي تصبح، عجباً، شعاراً محموداً من شعارات الطبقة السياسية اللبنانية المتناثرة شظايا. شعارٌ ينادي به الترهيبيون والممانعون، وأهل المصادرة والغلبة والاستقواء، فضلاً عن المدافعين عن حقوق المسيحيين. بعضنا يستخدم في لحظات الاستهوال والمرارة والغضب، عبارات ممجوجة لوصف هؤلاء، من مثل قوّادي السياسة ومخاخها وعهّارها.
جميلةٌ، وأخّاذةٌ، بل عجائبية، هي هذه العبارة، حتى ليظنّ "ابن البلد" أن زيت المبدأ والصدق والأمانة والعفّة والإخلاص يكاد يرشح من وجوه المنادين بها. وقد يحمله التخييل إلى التوهّم أن حكومة الشراكة هذه، لا بدّ أن تكون على مرمى حجر، أو على مسافة اجتماعٍ تاريخيّ مأمول بين قادةٍ للسنّة السياسية من هنا، وقادةٍ للشيعة السياسية من هناك، بعد التوقف المبرمج موقتاً عن حروبهم الرعناء، ضمن صفقاتٍ تُطبَخ هنا وهناك.
قد يرى البعض أن من السماجة السياسية، بل من الصلافة التكوينية والوطنية، أن يختصر أحدنا المشهد السياسي اللبناني بهذين الطرفَين فحسب، لكن خدش الإناء لا ينضح حالياً إلاّ بزيت هؤلاء، وهو – صدِّقوني - زيتٌ كافٍ، وإنْ مزغول، لاجتراح أعجوبة.
هكذا أجدني أستطرد قليلاً فأقول: متى صدقت نيّات أهل البيت، ففي إمكان السياسيين اللبنانيين أن يجترحوا العجائب. سوابقهم معروفة في هذا المجال. فما دامت السوابق تنبئ باللواحق، وما دامت النيّات صادقة وجليّة، ولا بدّ، هذه المرّة، مثل عين الشمس، وأكثر، وما دام الشعور بالتهيّب حيال المصائر الوجودية، واصلاً إلى حدوده القصوى عند هؤلاء وأولئك، فهل من عجب إذا طُوِّبوا ملائكةً وقدّيسين، وإنْ في ثياب انتهازيين عاديين؟!
أنظروا إليهم! أنظروا إلى وجوههم، وعيونهم، وأيديهم، تروا العجب الوطني العجاب. وإذا أردتم التبحّر والتيقّن، فتسلّلوا إلى قلوبهم، فهي بيضاء بيضاء بيضاء، كثلوج لبنان عندما لا يكون الشتاء ماحلاً، كما هي حاله هذه الأيام.
أخصّ بالذكر من بين هؤلاء وأولئك، أهل الممانعة، ولا أنسى الذين يتغاضون، برمشة عين، عن رفض الجلوس إلى البعض بسبب مشاركته في القتال في سوريا، وعن المطالبة بالاقتصاص من القتلة. أتفهّم ظروف السنّة والشيعة، وأرباب هؤلاء وأولئك، وأذيالهم، فللظروف أحكامٌ وأولويات.
بالحقيقة، تذهلني هذه العفّة الوطنية شبه الجامعة عندما تسيل على الألسنة. وتعجبني خصوصاً عندما تصبح مطلباً جامحاً لحرّاس الترهيب السياسي أو لحرّاس "شعب لبنان العظيم"، فأشعر بالزهو، وتختلج في أعماقي حالاتٌ شتى من الوطنية اللبنانوية، حتى يكاد من يراني يتوهم أني أطير من الحبور. ثمّ، أراني أهلوس قائلاً: ما دامت الحكومة المأمولة هذه سهلة المنال، بكبسة زرّ، بسببٍ من ترفّع السنّة والشيعة السياسيتَين عن صغائر الأمور وتوافهها، فإن لبنان سيخرج من الدهليز المحلي، ومن الجحيم الإقليمية، سليماً، معافى، وسيهزأ بالعواصف الوجودية التي تضرب المنطقة، وتهدد كيانه بالتفتت والزوال.
وإذ أتهيّب خطاب هذه العفّة الوطنية، فأكثر ما يعجبني في نسيجه، عبارة "تدوير الزوايا"، التي يحلو لي أن أشبّه القائم بها والداعي إليها، بطبيبٍ حنون تهرع إليه آنسةٌ عفيفة، تريد أن ترتق أشلاء غشاء بكارتها الذي انفتق في ساعة تخلٍّ، قبل أن يلجها الذَّكَر الموعود، في ليلة الدخلة، وهي عذراء "خلنج".
قد تكون أشلاء التكاذب الوطني قد رُتِقت في البلاد لدى صدور هذا المقال، ومعها قد تكون "حكومة الشراكة الوطنية" قد أبصرت النور. فطوبى لأهل المبادئ والممانعات في السياسة، ومعهم مريدو الشرف اللبناني الرفيع، فإنهم يرثون الحكومات العذراوات الحلال، وإنْ بتدوير زوايا، أو بصفقاتٍ لرتق غشاء!
* * *


أشلاء الثورة
يعجبني السيسي. ليس فحسب لأنه صاحب مواهب عسكرية، بل خصوصاً لأنه "زاهد"، "متواضع"، و"ديموقراطي".
فهو، أولاً، لا يغريه منصب الرئاسة. ثمّ، هو لا يريد هذا المنصب بقوة السلاح، ولو أراده لكان اقتحم القصر الرئاسي على ظهر دبّابة. أو، لكان طلب من الدبّابات أن تومئ إلى هذه الرغبة، إيماءً فحسب.
في كلّ حال، هو لن يطلب هذه الرئاسة من الشعب، حاشا. لكنه إذا رأى أن الجماهير تطلب ترئيسه في عرائض شعبية علنية، أو في تظاهرات مليونية تعمّ المدن والأرجاء، فلن يرفض طلباً كهذا، حتى ولو كانت كأس الطلب ممزوجةً بـ"مرّ" الرئاسة و"علقمها" و"سمومها".
هو "قد" يريد الرئاسة، ولكن بقوة الشعب، ونزولاً عند طلبه وإرادته فحسب.
"زاهد"، و"متواضع" و"ديموقراطي" هو السيسي. فماذا تريد الثورة في مصر وماذا يريد شعب الثورة أكثر من ذلك؟!
لو كان لي رأي، لكنتُ قلتُ الآتي: فلتضحك مصر، وليضحك شعبها في عبّهما. ثمّ، عملانياً، لو كان لي رأي في هذه المسألة، لكنتُ طلبتُ من الـ"فايسبوكيين" والـ"تويتريين" المصريين، ومعهم جماعات التواصل الافتراضي، بفنونه وأسراره المختلفة، أن يباشروا فوراً، تنظيم حملات إعلامية وفكرية مسيّسة، هادئة، موضوعية، وعلمية، تلقي الضوء على ما يمكن أن يتركه ترئيسٌ كهذا، من أثرٍ عظيم، في حاضر ثورة مصر ومستقبل أجيالها الطالعة، فضلاً عن تغيير أحوال الغلابة من شعبها ومن طبقاتها الفقيرة، وهؤلاء، كما يعلم القاصي والداني، أفقهم شبه مسدود، وهم مكسورو الخاطر، يعيشون كفاف أيامهم بالتي هي أحسن، بل أقلّ بكثير.
ليس لي رأي في هذه المسألة، بالطبع، لكني إذا أُرغِمتُ على إبداء رأي، وأرجو أن لا أُرغَم، فقد أقترح على أحرار مصر وأهل الرأي فيها، الذين يأّستهم عقودٌ من الحكم الاستبدادي الآفل، وسنةٌ مظلمة من حكم "الأخوان المسلمين"، وحطّمت عزائمهم ما آلت إليه ثورتهم في البراثن الخفية وأنياب المخابرات المحلية والإقليمية والدولية، مدعومةً بفعائل "الأخوان" الإشراقية، وجماعات "النور" والتكفيريين وروّاد السلف الصالح...، قد أقترح على هؤلاء، أن يزنوا المسألة هذه جيداً، بصالحها وطالحها، وهم، عندما يفعلون ذلك، لا بدّ أن يكتشفوا "محاسن" هذا التنصيب النازل عليهم منّاً وسلوى من سماء ربّ العالمين.
أعرف أن رئاسة مصر شأنٌ محض مصريّ، وللمصريين وحدهم أن يروا ما يرونه مناسباً. أعرف أيضاً أن من يتدخل في أمور لا تعنيه قد يسمع كلاماً لا يرضيه، لكن السيسي يعجبني للغاية، كما يعجبني "زهده" و"تواضعه". أما أشلاء ثورتكم و"ديموقراطيته" فحدِّثوا بها أيها المصريون. والسلام.
* * *


أشلاء الهواء
لا تتركوا الهواء وحيداً. خذوه بالرئات بالأعين والأيدي لئلاّ يختنق. وخذوه بخيال الكلمات لئلاّ يموت مستوحشاً في العراء.
أنتم أيّها الأطفال، من شأنكم أن تشربوا الهواء كلّه بضحكاتكم، بأرواحكم، بشعوركم المبلّلة بالغيم. لكن أين أنتم أيها الأطفال؟
أما أنتِ، أيّتها الأشجار، فيمكنكِ أن تترفّقي بالفقير الهواء. يمكنكِ على سبيل المثال، أن تهزّي أغصانكِ كثيراً أو قليلاً، من أجل أن تُحدِث ثماركِ المتهالكة ارتجاجاً في فراغاته السمحاء. كما يمكنكِ أن تقطفيه كأحلامٍ ساهرة في نجوم الخواء. لكنْ، هل يترك لكِ القاتل ظلالاً تفيئين إليها في هجير البلاد والهواء؟
لم أرَ رضّعاً ونساءً وشيوخاً، ولا فتياتٍ وفتياناً، إلاّ في ذكريات الأنهر والدماء. لم أرَ بيوتاً، ولا أغانيَ، ولا عصافير شروقٍ وانتظارات. فكيف يمكنني أن أرى الهواء؟!
في اليرموك، في دمشق، في بغداد، في بيروت، في فلسطين، رأيتُ كتباً تحترق، ورأيتُ صوراً ووجوهاً وأطفالاً يخرج منهم الهواء. فكيف تستطيع الكتب، كيف يستطيع الأطفال والصور والوجوه أن يحيوا بعد أن يستنفدوا أنفاس الهواء؟!
كنتُ أفترض أن الجروح تخزّن الهواء لتتنفّس. وأنها، كالأمل، تربّي نفسها بنفسها لتصير أحلاماً للجبال، أو رئات.
كنتُ أفترض أننا سنعثر بعد قليل على إلهٍ يعيد إلينا الهواء.
كنتُ أفترض أنه يسهل على الله أن يعيد اختراع الهواء.
لكنْ، هل هو يستطيع حقاً أن يعيد النسائم إلى عيون الأطفال؟
أو هل يستطيع، في الأقلّ، أن يربّي رموشاً نغمض بها أشلاء الهواء؟!


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم