الأحد - 08 أيلول 2024
close menu

إعلان

جذوع

سمير عطاالله
A+ A-

آل ارسلان. ألبساتنة. آل تقي الدين. اليازجيون.آل تويني. آل شرارة. آل مروة. آل شرف الدين. آل عقل. آل بعلبكي. المعالفة. آل خوري. الرحابنة. آل غانم. آل صايغ. وجميع الألى الآخرون. اسراب يأتون لا أفراداً. عائلات وجماعات حرثوا في الأدب وابدعوا في الفكر وشاركوا في النهضة وتوزعوا في ما بينهم مهمات المبدع والإنسان والمواطن. تطلع منير تقي الدين في البيت فرأى سعيد وبهيج فوضع كتاباً عنوانه"بصل الجنينة" متهيباً أن يكون بين عمالقة الدار. لكن تواضعه لم يمكنّه من اخفاء قامته الأدبية والسياسية هو أيضاً.
هل هي سمة لبنانية خاصة، أن تولد النبتة كرمة؟ هل هناك آل غوته في المانيا أو آل سارتر في فرنسا؟ صحيح، صحيح. هناك دوماً الأب والأبن، وشتراوس الأب والأبن، أما عرائش بكاملها، فهنا، شفيق وفوزي ورياض ورشدي ونصري وعيسى وأمين، وشجرة معلوفية واحدة. من أب إلى آخر. من قرن إلى آخر.
سمّى أمين هذه العبقريات العائلية المنتشرة في الأرض "جذور". شجرة تنبت في عين القبو وتفرخ في زحلة وتتفرع في كوبا وتشمخ في البرازيل وتفيّء في بوسطن، وأما من باريس فيمتد جذعها ألى داخل الاكاديمية.
عندما بدأ اسم آل سالم يلمع في كورة الشمال قيل أنهم ابناء شقيقة شارل مالك، من بطرام. فلا بد للألمعية من نسب وللعلم من منسوب. وشاع ذلك وقتاً طويلاً؟ لكن آل سالم إنما كانوا يؤسسون دوحة جديدة في عائلات العلم ومصابيح النهضة. تجاوزوا النجاح الاكاديمي إلى الانجاز الوطني. وتجاوز فيليب سالم حدود الجامعة الاميركية المترامية بتاريخها الابداعي، ليبرز في الولايات المتحدة طبيباًعالمياً إلى جانب مايكل دبغي، الرجل الذي جيء به إلى ما خلف اسوار الكرملين ليشرف على عملية جراحية للقيصر المخمور بوريس يلتسين.


ما حكاية هذا البلد الصغير مع اباطرة الدول الكبرى؟ قبل أن يذهب دبغي من أميركا إلى الكرملين، ذهب جورج حاتم من أميركا لكي يكون طبيب ماو تسي تونغ في الصين. وكما انضم دبغي في التكساس إلى العمل السياسي بصفته عملاً إنسانياً، هكذا فعل مواطنه الآخر في الولاية، فيليب سالم. رائدان، ليس في الجراحة البشرية وتحدي العصي منها، بل في الاندماج ضمن الاسرة الجديدة مع ابقاء الاتصال الدائم بالوطن الأم. بالجذور.
حيثما تكون هناك قضية إنسانية، يكون فيليب سالم. مايكل دبغي وهو، حوّلا هيوستن مركزاً لمعالجة العرب من جميع البلدان. فقدت بعض اصدقائي العرب ممن تأخروا في اللجوء إليه، وكنت في استقبال الكثيرين من العائدين. وكان ثمة اجماع على أن فيليب سالم لا يعالج بالمبضع وإنما بدفق إنساني، وعبقرية في التعبير، وروح سامية تبدد من فوق السرير قيمة الكآبة ورعدة الخوف.
كان الدكتور أيلي سالم وزيراً للخارجية في أصعب وأعقد مراحل لبنان. لكنه اضفى على قتوم المرحلة روح الدعابة الرفيعة التي لا بد أنها جزء من العائلة. ويروي في مذكراته عن جلسة تفاوض إلى جانب الرئيس أمين الجميل مع الرئيس الاميركي رونالد ريغان الذي بدأ حياته ممثلاً في هوليوود. فقد لاحظ الوزير أن ريغان لا يصغي كثيرا إلى الكلام عن الوضع الوعر في لبنان، بل يتأمل في وجهه على نحو مزعج. ثم فجأة ضرب ريغان بكفه على جبينه وهتف: "آه، داني توماس".
وداني توماس هوالممثل الكبير الذي اضحك اميركا لعقود على شخصية "العم طنوس"، اللبناني المهاجر، الذي يتعثر في لغته الجديدة وعالمه الجديد.
أنف الشقيق الأصغر، فيليب، ليس معكوفاً مثل انف داني، ذلك الإنسان النادر. ولكن يجمع بين الإثنين ما هو أهم من ذلك. يجمع بينهما ليس صفة النجاح الكبير التي أعطياها، في من اعطوها، للهجرة اللبنانية إلى أميركا الشمالية، بل تلك الصورة الإنسانية التي لا يحدها إطار ولا هوية ولا لون.
اعظم المؤسسات الاميركية، من جامعات ومستشفيات ومتاحف وجمعيات، انشأها مهاجرون أو متحدرون. داني توماس هو الجذع اللبناني والعربي الوحيد الذي سبق هؤلاء بانشاء مستشفى "سانت جود" بحجمه الهائل. لست اذكر أين كنتُ معه ذات مرة نجتاز طلعة ما في قرية ما، عندما التفت إلي فجأة وسأل: "هل تعرف شو يعني سانت جود بالعربي"؟ قلت لا، قال "مار لابا". وتُلفظ باللهجة الشمالية السريانية الأصول "مور ليبو".
هناك من اعطى النجاح المهاجر معالم المال والثروة والعلم والاكاديميا، وهناك من اعطاه ملامح إنسانية على مدى البلدين، الأم والمغترب. داني توماس ورالف نادر، محامي البسطاء ووليّ القضايا الصغيرة، ومايكل دبغي رائد زراعة القلوب الذي عاش إلى ما قبل شهرين من بلوغ المئة عام، وجبران خليل جبران، فيلسوف التمرد على الظلم والاقطاع، وأيضاً بطريقته وفي عالمه الصعب المكابد، فيليب سالم، راعي اليائسين.
عرَّفني إلى فيليب سالم في لندن، مواطنه في كورة الشمال وبحر شجر الزيتون، المهندس جورج زاخم. وعندما نتحدث عن الوجه الإنساني للمهجر، يلمع متفرداً اسم هذا الرجل الذي تحمل اسمه الاجنحة في المستشفيات والكليات في الجامعات. ويظلل اسمه تواضع جم وخلق كبير، في أمور كثيرة أخرى. ويعتقد كثيرون أن مساهمات جورج زاخم الكبرى تذهب فقط إلى نواحي الأرثوذكس وعلومهم وتقدمهم المستدام، ولكن في ذلك جهل حسن النية، لما فعله العلماني جبران خليل جبران أو ما قدمه لباقي الطوائف والمذاهب. على أن ما قدمه جورج زاخم لجامعة البلمند، يبقى دائماً تاج المساهمات.
في جنازة المطران فيلبس صليبا في بروكلين كان القادمون من جميع الجهات وجميع الطوائف والمذاهب. وكان يتقدم هؤلاء ايلي سالم وفيليب سالم وجورج زاخم وكلوفيس مقصود وكل من شعر في داخله أن ثمة اخوية تجمعه بالرجال الذين يقدمون الإنسان على سجل النفوس وهفوات الأنفس الضعيفة. ما أجمل أن تتعلم من الكبار لأنهم لا يعلمونك سوى أمثولة البنفسج: الجمال في التواضع، والرونق في البساطة.
كان لدي دائماً ضعف حيال الارثوذكس: حضاريات جورج خضر، وامميات غسان تويني، وتواضع اغناطيوس هزيم، ومدنيات غفرائيل الصليبي، وفروسية الياس عوده، ومودات فيلبس صليبا. وألق الرحابنة الازلي. وأذ يكرِّم لبنان فيليب سالم، مواطناً من ارضه (1) وإنساناً من العالم، كم اشعر باعتزاز، وخصوصاً في هذا الزمن المتوحش حيث يعود الشرق إلى الجاهلية رافعا زوراً علم الاسلام وكذباً راية الرسالة مبقِّعاً صورة الخلافة بالدم والتعصب والجهل.
يقول الدكتور جورج يونان، وهو طبيب و"حكيم" آخر اجتذبته أميركا وبقيت جذوره الفكرية هنا، يقول ما كان اسعدنا واغنانا لو بقينا نرسل الفكر والأدب والشعر والفن والعلوم. ما كان أهنأ بيروت لو ظلت مدينة تحتضن نزار قباني وادونيس ومحمد الماغوط ومحمود درويش. لكن بيروت الاغنية والقصيدة سقطت عن الشجرة الآن. وفيما سلَّمت نفسها إلى الحواجز والخوف وتسرب الموت والجهل، بقيت جذوعها في الخارج تتوهج وترفرف. فيليب سالم من بطرام، في كورة الشمال، فرع من عائلة وجذع من منبت عميق الجذور.


(1) يقام الجمعة 11 تموز الجاري تكريم للدكتور فيليب سالم

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم