الإثنين - 09 أيلول 2024
close menu

إعلان

ليالي الشمال الحزينة

عقل العويط
عقل العويط
A+ A-

في لبنان، وفي طرابلس لبنان تحديداً، كلّ شيء يجري في مجراه "التاريخي"، المحلي والإقليمي. فها هي مطحنة التاريخ والجغرافيا، تواصل جرش المصائر، ولا شيء مما يحدث هناك، جديد أو خارج على المألوف. لذا، أريد أن أصدّق (!) أن كلّ ما يشاع عن تمكّن اليأس من عيش الناس وأحوالهم – وهو صحيح - إنما هو فقاعات صابون سرعان ما تعود إلى أحجامها الطبيعية. كما أريد أن أصدّق أن الحياة في طرابلس لبنان ليست في أمكنةٍ أخرى، وأن الاهتراء والتفكّك والانحلال ليس شبه سيرة تاريخية جماعية، "دقيقة"، للأمكنة والجماعات والأفراد، وقد صارت من فرط رسوخها وتكرارها نوعاً من "حواضر المائدة".


ما يحدث في طرابلس اليوم، هو بعضٌ مما حدث في الأمس، ومما سيحدث في الغد، ضمن حلقةٍ مفرغة من فجائع الأمكنة، والمآسي والحسابات والأوهام والأحلام المضرّجة. المكان والناس هناك، رهائن الفخّ التاريخي والجغرافي الكبير، أما الأقزام والأدوات والدمى، والعابثون والمحرِّكون والمشعلون الفتن فمن الجهتين. يتغيّرون أشكالاً وأسماءً وأدواراً، لكنهم في الواقع العملاني للأمور هم أنفسهم، "أبطال" الماضي والحاضر والمستقبل. متبدّلون فعلياً، لكن أبديون رمزياً ودلالياً. المدينة المتألمة وناسها المتألمون، مسرحٌ دائمٌ للخراب الذي يصلح أن يكون مادةً أبوكاليبتية، سينمائية وروائية بامتياز، سمتها الأساسية مرارات التراجيديا اللبنانية، أزمنةً وأمكنةً على السواء.
لا جديد تحت الشمس، ولا تحت شمس لبنان، ولا خصوصاً تحت شمس طرابلس بالذات. ما لم نره بالأعين، ولم نعايشه بالوقائع، نراه ونعايشه بالكوابيس، والمنامات، والكتب، والخيال العلمي.
يروي قدامى الناس من سكّان هذه الأرض، أن حياتهم كانت سلسلة متواصلة أو متقطعة من الأحوال المأسوية هذه، وإن بأشكال وأساليب وتفاصيل ووقائع مختلفة. ما إن كان يستتبّ لهم أمرٌ ما، بدواعٍ ومعطياتٍ داخلية و/أو خارجية، ذاتية و/أو موضوعية، حتى يروا أمرهم هذا قد استحال أثراً بعد عين. كذا يقولون عن ساداتهم، وأمرائهم، وقبائلهم، وطوائفهم، وأمكنتهم، ومراتع نفوذهم. هل ثمة ما يتغيّر اليوم، لكي يعتقد بعضنا أن هناك جديداً قد طرأ حقاً على حيوات هؤلاء الذين شاؤوا أن تكون حيواتهم (أو شيئت لهم، ووافقوا) صوراً متكررة ومستعادة من الماضي، غابره والجديد؟!
ليست رواياتٍ تخريفية هذه التي يتداولها الناس عن ماضيهم، بل هي الكتب، والتواريخ، والوقائع، معيشةً ومرويةً بألسنة متعدّدة، ومتنوّعة، تجمع بينها، على اختلافاتها وتناقضاتها، وأكاذيبها وتخريفاتها وتخرّصاتها، قواسم مشتركة، هي أقدار اللعنة والألم والفجيعة والقلق والهجران والرحيل والفقدان والموت وعدم الثبات على حالٍ من القيم والقوانين والدساتير و"التواطؤات"، يرتضونها معياراً للمصير والعيش وتداول السلطة.
في طرابلس الأمس، كان ثمة "حركة التوحيد" و"جند الله" والأحزاب والحركات الوطنية والإسلامية، اللبنانية والسورية والفلسطينية، وكان ثمة أيضاً السنّة والمسيحيون. في طرابلس اليوم، ثمة فقط باب التبانة وجبل محسن. سنّة وعلويون فحسب. أما المسيحيون هناك، فلن يبقى مسيحيون هناك (تقريباً) بعد الآن. لكن في كلّ يومٍ طرابلسي، ثمة سوريا أو إيران وقطر والسعودية. غداً، سيحدث الشيء نفسه، لكنْ بأقنعةٍ ووجوهٍ مختلفة.
لا أعير اهتماماً بالغاً للإعلام المسموم الذي تروّج له الجماعات والطوائف والأحزاب، وذاك الذي تبثّه الشاشات القاتلة، والجرائد الصفراء، ويتبارى صغار القوم (كبارهم) في التمترس وراء ألفاظه المقيتة الرعناء، ويتداوله الناس، باعتباره حقائق مقدسةً هنا، وأكاذيب دامغة هناك. بل يهمّني تحديداً أن ألعن هؤلاء السادة اللبنانيين الذين يتشاركون في الوضح الدموي، في قتل لبنان، وإفقاده معناه. ويهمّني خصوصاً أن ألتفت بعينَي روحي إلى هذه الأمكنة الجريحة، وإلى هؤلاء الناس، القلائل أو الكثر، الذين صارت حياتهم جحيماً، بعدما فقدوا كلّ معنى وأمل، وباتت ضرائحهم هي أمكنتهم الوحيدة شبه الآمنة (!).
ما أشبه اليوم بالأمس! ما يُرتكَب في طرابلس، ليس سوى ما كان يُرتَكب فيها، وفي غيرها من المناطق اللبنانية، الواقعة – بإرادة قادتها وزعمائها الصغار - في أسر المعادلات والحسابات الإقليمية، تشتدّ وتيرة حوادثها كلما كان ثمة "حاجة" ماسة إلى ذلك، هنا أو هناك، ثم تخفّ تدريجاً، أو تصمت فجأةً، إذا طرأت "حاجة" ماسة، مخالِفة، تستدعي ذلك!
طرابلس تُنحَر، شعبها يُنحَر. هل حقاً ليس في اليد حيلة؟
لبنان كلّه يحشرج. ساداته، أشبه بدمى راعبة قاتلة. لا أحد يستحقّ هذه البلاد. لا أحد.
لبنان اليوم، هو هذه الأفئدة والعقول والعيون المتقرّحة من فرط الأسى واليأس.
أكثر ما يؤلم الأفراد والمدنيين والحالمين والشعراء، أن لا تكون في أيديهم حيلٌ رادعة لصدّ هذه الغائلة القاتلة. فأن نكون شهوداً على المقتلة، ولا يسعنا أن نفعل شيئاً لزهقها، هذا أسوأ ما يمكن أن يوصم به الشهود. شخصياً كم يقتلني أني على قيد "هذه" الحياة. كم يقتلني أني أشهد!


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم