الأحد - 08 أيلول 2024
close menu

إعلان

جبران في صنوبرات المكلّس

راجح الخوري
A+ A-

ثمانية اعوام على تفجير المنظومة الفريدة التي لن تتكرر، جبران تويني شهيداً، ولكأن الدوي باق كترجيع وجع قائم لن يبارح لا الجروح ولا الامكنة ولا العيون في اغماضتها على تحفيز المخيلة النازفة، بما سيعني، والى أبد الآبدين، ان صدى تفجير الحبر والفكر والقسم والوعد والشباب والصدق، ذلك الصدق الذي لم يعد الآن يا غابي... ان ذلك التفجير سيستمر في الامكنة وفي عقول الكثيرين، وفي نبض لبنان الجريح ذلك الفارس المصلوب الذي لم يترجل بعد، فمنذ غادرت وغادرتم تستمر جروحه فائضة بالخل وتستمر هامته فائضة بالشوك.


لقد كانت لي دائماً طقوسي سواء في رثائك او في حزني عليك وعلى الوطن من بعدك، ولست ادري لماذا تحملني الذكرى عادة وكثير من الصباحات، الى تلك الصنوبرات عند ذلك المنحنى في المكلس، حيث أرى كيف يمكن الغصون ان تنوح وكيف يمكن الاوراق ان تقطر دمعاً ممزوجاً بهذا الشتاء النقي، وانت متفتح مثل حبة صنوبر وكعادتك تلقي التحية على المارة بكثير من البشاشة والحبور.
هكذا دائماً تحملني المخيلة الى الصنوبرات في المكلس حيث تحط شحارير وتنط حساسين متعبة، تحرص على إلقاء التحية على ساكن المكان وساكن قلوب محبيه وقد اطبقوا عليه ليبقى حاضراً فيهم ممنوعاً من الابتعاد.
وهكذا أيضاً اتذكر دائماً الكبير غسان تويني داخلاً الى قلعة "النهار" تماماً مثلما دخل الملك فريام الى القلعة مسحوقاً بألم موت ولده هكتور، الذي أصر على القتال امام الاسوار، يدخل مفجوعاً الى الاعماق رافضاً التصديق ومفجراً الوصية الباقية ابداً: "جبران لم يمت والنهار مستمرة". صحيح تماماً لن يموت، فدورة الفجر ومن بعده النهار وصياح الديك أزل بعد أزل، والى ان نكون جميعنا واحداً في السرمدية الجامعة بين الناس والاوطان.
لم يكن جبران تويني مندفعاً الى الشهادة، كان مندفعاً الى الأسمى، الى لبنان الوطن الحر السيد المستقل الذي لا شيء يمكن ان يفسّر سره المكنون وسحره الطاغي، الا الحالم به مثل جبران الذي كان في وسعه ان يحصل على ما يريد حيث يريد، لكنه كان اسير تلك المنظومة الفريدة من المشاعر حيال وطن وهوية وشعب يستحق الفرادة والتميّز... ويستحق قَسَماً تحفظه الاجيال وقد تجاوز فيه حدود الوطنيات والشهادات، عندما قرن لبنان في قسمه الى جانب الله مكللاً بالعظمة.
كان في وسع جبران ان يبقى بعيداً لكنه اصرّ على صنع الجوهر، فبعيداً عن لبنان المعلق على صليب المحنة الطويلة، لم يكن هنا من معنى ولا من رغبة ولا من اقتناع ما دامت الحرية النازفة في بيروت تناديه كنهر هادر من الدماء المسفوحة: لماذا تركتني... فقال لبيك!


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم