تصدّرت صورة عالم التاريخ والآثار والجيولوجيا الإسرائيلي الشهير زئيف إرليخ، ذي الشاربين الأبيضين معتمراً الخوذة العسكرية وواضعاً نظارات، الصفحات الأولى لعدد من الصحف الإسرائيلية التي تساءلت عما كان يفعله هذا المسنّ المنتمي إلى الصهيونية الدينية في موقع أثري في قرية شمع اللبنانية، على بعد نحو 7 كيلومترات من الحدود، حيث قُتل في كمين نصبه "حزب الله".
تساؤل مشروع، ولو أنّه صدر عن جهة يُفترض بها أن تجيب، لا أن تسأل، خصوصاً أنّ إرليخ اشتهر بـ"تهويد" أي آثار يُعثر عليها في فلسطين، تمهيداً لإصدار قرارات قضائية بالاستيلاء على المنطقة المحيطة بالمعلم، كونها تعود إلى ما يُسمّى "أرض إسرائيل" التاريخية، والاستيطان فيها. وهذا بالتحديد الفكر الذي روّج له العالِم القتيل، صديق زعماء اليمين المتطرّف مثل الوزيرين بتسلئيل سموتريش وإيتمار بن غفير، وكتب عنه مئات المقالات والتقارير والدراسات.
مسرحية التهويد
أجمع عدد من الخبراء في الشأن الإسرائيلي الذين اتصلت بهم "النهار"، على أن يكون السبب الرئيسي لدخول إرليخ إلى جنوب لبنان أكثر من مرة، وفقاً لوسائل إعلام عبرية، هو "محاولة إثبات أنّ هذه المنطقة تعود تاريخياً إلى اليهود، وكانوا يقطنون فيها، وبالتالي من حقهم العودة إليها واستيطانها".
يجزم وزير الثقافة اللبناني محمد مرتضى، المعني مباشرة بهذا الشأن، أنّ إرليخ "كان ينوي القيام بعملية مسرحية مفادها أنّ مقام النبي شمعون الصفا في قلعة شمع تراث إسرائيلي، وأنّ الأرض القائم عليها إسرائيلية"، ما يؤكّدُ مرة أخرى "الطبيعة التوسّعية العدوانية لهذا الكيان الذي لن يكتفي باحتلال فلسطين أرضاً وتاريخاً وتراثاً، بل هو ساعٍ أيضاً إلى احتلال لبنان، إن استطاع ذلك".
ويقول مرتضى، في إطار تعليقه على الأمر، لـ"النهار" إنّ "التاريخ الإسرائيلي المزعوم في بلادنا ليس سوى أسطورة لا تمتّ إلى الحقيقة التاريخية الصحيحة بصلة، فعبثاً يفتش الصهاينة في فلسطين ولبنان وكلِّ المنطقة، عن أي أثرٍ يمكن أن يُعزى إليهم. إنهم غرباء جيءَ بهم إلى بلادنا ليكونوا ثكنة عسكرية ذات وظيفة تدميرية".
وتضمّ قلعة شمع مقاماً شيعياً، فيه قبرٌ ينسبه البعض إلى سمعان القانوني، أحد تلامذة السيّد المسيح الاثني عشر، بينما ينسبه آخرون إلى شمعون، أحد أسباط بني إسرائيل الاثني عشر.
#زئيف إرليخ الباحث الإسرائيلي الذي قتل في #جنوب_لبنان، وهو رائد في الاحتياط، أحد مؤسسي مستوطنة #عوفرا pic.twitter.com/7cYO6IjAgj
— Spot Shot (@spotshotlebanon) November 20, 2024
بلا إذن...
يقول عادل شديد، الباحث الفلسطيني المتخصص في الشأن الإسرائيلي، إنّ إرليخ "من قادة المشروع الاستيطاني العقائدي، ويعتبر من كبار علماء الآثار في الحركة الصهيونية، وينتمي إلى الصهيونية الدينية التي تعتبر الضفة الغربية معقلها".
ويضيف، في حديث لـ"النهار"، أنّ إرليخ "عمل ليل نهار لتشويه وتزوير كل المواقع الأثرية والتاريخية في فلسطين والمنطقة، ومحاولة ربطها بتاريخ اليهود، وواضحٌ أنّه دخل إلى لبنان أكثر من مرة، وهذه المرة كُشف الموضوع".
ووفقاً لما أعلنه الجيش الإسرائيلي، أفضت التحقيقات التي أجراها إلى أنّ إرليخ دخل إلى لبنان من دون الحصول على إذن رسمي، مستغلاً علاقته بأحد أصدقائه، وهو رئيس أركان لواء غولاني يوآف ياروم، الذي جُرح في الكمين.
ويصف شديد ذلك بأنّه خطير، يقول: "إن دخول عالم الآثار مع الجيش الإسرائيلي إلى الكثير من المناطق في الضفة وغزة ولبنان، من دون علم القيادة العسكرية، يكشف عن أنّ الصهيونية الدينية باتت التيار الأشد تأثيراً بالقرار السياسي والعسكري والأمني في إسرائيل".
ليس الوحيد!
يرى وليد حباس، وهو باحث رئيسي في المركز الفلسطيني للدارسات الإسرائيلية (مدار)، من جهة أخرى، أنّ "الفصل الاعتباطي بين الجيش والمؤسسة الأكاديمية في إسرائيل مغلوط وخاطئ". ويوضح لـ"النهار": "منذ نشوء إسرائيل، الجامعات والمؤسسات الأكاديمية والباحثون متورطون حتى النخاع في السرقة والاستيلاء وتوظيف العلم الذي يملكونه في خدمة الجيش، وتحويل الأرض إلى أرض توراتية".
ويتابع: "تتعاون المؤسسات الأكاديمية دائماً مع الجيش والدولة الإسرائيلية لتقديم علم الآثار وسيلةً علمية لإضفاء شرعية على الأرض التي يريدون احتلالها"، متوقعاً ألا يكون إرليخ المؤرخ الوحيد الذي دخل إلى لبنان، ومشيراً إلى أنّه "عند قدوم الميليشيات والعصابات الصهيونية إلى فلسطين، كان معهم علماء آثار وتاريخ وتوراة. فمنذ البداية، تختلق إسرائيل روايات جديدة تلصقها بالأرض وتهوّدها".
ورغم كل الشكوك اللبنانية والإسرائيلية على حد سواء، فإنّ إسرائيل الرسمية نفضت يدها من إرليخ. بالنسبة إلى ما تروّجه، فإنّ المؤرخ الذي أهداها ورفاقه العشرات من أراضي المستوطنات دخل بـ"الواسطة" إلى جنوب لبنان، بلا مهمة رسمية تقضي بـ"تهويد الأرض"، كما فعل سابقاً في الضفة وغزة. وعليه، تحاول الإيحاء بأنّ جيشها لم يدخل ليحتلّ، ولا رغبات توسعية لديها، ولا أطماع في خيرات لبنان وسوريا والأردن ومصر وغيرها من الدول العربية. وهذا - بالتحديد - ما لا يتماشى مع التاريخ.