لا تقلّ فظاعة صور الدمار في قرى شرق بعلبك عن مثيلاتها في غربها، إضافة إلى المناطق الأخرى في بعلبك الجريحة التي صمد أهلها رغم أطنان الحمم التي انهمرت على أحيائها، لكنهم دفعوا شلالاً من الدم والدموع.
بلدة النبي شيت، وللمرة الثانية على يد الجيش الإسرائيلي، تشعر وكأنها خاضت معركتها الخاصة، حيث إن قوة الدمار التي حلت بها، بالإضافة إلى نوعية الأسلحة الثقيلة والمتطورة التي استُخدمت، جعلت من آثار الحرب تُنقش في ذاكرة المكان حيث تعرضت من بدء العدوان وحتى آخر لحظة من الاعتداءات لما يزيد على 300 غارة.
منذ لحظة وصولنا إلى مشارف البلدة، لاحظنا بين المنازل المهدمة، وفي كل 10 أو 20 متراً، آثار القصف الذي ترك بصماته في كل زاوية من زوايا الحياة، وفي كل الدروب والطرق وفي العديد من الأبنية السكنية والمتاجر. ومع ذلك، عادت الحياة في هذه البلدة لتستعيد وتيرة طبيعتها، رغم كل ما جرى.
عام 2006 كان عزاء هؤلاء وجود الأمين العام السابق لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله الذي اغتاله الإسرائيليون بعشرات الأطنان من المتفجرات في 27 أيلول (سبتمبر) الماضي، أما اليوم فهم يشعرون بفداحة هذه الخسارة التي تضاف إلى ما نزفوه بشراً وحجراً ومالاً.
تتجلى أمام العين مشاهد لا يمكن استيعابها، وصعوبة تصديق مدى صبرهم وثباتهم في وجه المحن، في ختام الغارة الأخيرة التي استهدفت البلدة في فجر يوم الأربعاء، تقف وفاء وسمية وقمر بين أنقاض منزل شقيقتهن كوثر وزوجها محمد حبيب الموسوي يتنقلن بخطى مترددة بحثاً عن صور لشقيقتهن وأولادها علي (15 عاماً)، وأريج (14 عاماً)، وأسيل (11 عاماً) وحسين (10 أعوام)، عسى أن يعثرن على ما يبعث الحياة في قلوبهن وذاكرتهن، كما قالت وفاء لـ"النهار"، حيث تروي لنا بصبر وثبات كيف شهدت سقوط صاروخين على منزل شقيقتيها.
على بُعد خطوات، تعيش عائلة الشهيدة إسراء حسن شكر، التي لم تتجاوز السابعة والعشرين من عمرها، في بحرٍ من الآلام، كانت مراسم تشييعها بمثابة لوحات مأسوية تجسد أفظع مشاهد الألم والمعاناة، حيث قامت والدتها بجمع ما تبقى من أشلاء ابنتها وطفليها إيمان مشيك (4 أعوام ) وطارق مشيك (عامان) في كيس نايلون صغير، لتُدفن في قبر واحد وكأن الأمهات في قلوبهن يحملن أمنيةً مؤلمةً، أن تذوب الأمومة في عمق هذه الفاجعة.
بلدة الخضر الريفية، تلك التي تكاد تكون غائبة عن خريطة لبنان، شهدت تحولات جذرية في المشهد. فبعدما كانت هدفاً لغارات إسرائيلية متواصلة على مدى شهرين، تفاجأنا بأن جميع المنازل التي تعرضت للقصف تعود لمواطنين كانوا أو لا يزالون في صفوف السلك العسكري أو أساتذة مدارس.
عائلة المتقاعد من الجيش اللبناني، محمد حمزة، تعيش ألم الفقدان بعد أن ذهبت ضحية المجزرة التي أودت بحياة ابنهم الشاب عباس، البالغ من العمر 17 عاماً، وطفلي ابنتهم عبير وهما أريج (10 أعوام) وعلي الرضا (12 عاماً)، بينما جُرح كل من الشابة نرجس والطفل علي، الذي لا يتجاوز 13 عاماً، والذي أصر على البقاء في منزله رغم الخطر، خوفاً من فقدان طيور الحمام العزيزة عليه.
محمد، حتى هذه اللحظة، لا يزال حائراً، لا يصدق كيف تم استهدافه، وهو الذي لا ينتمي إلى أي تنظيم حزبي ولا يوجد بقربه أي أهداف لـ" حزب الله".
تتحدث سوزان عودة لـ"النهار" عن المعاناة اليومية التي عاشتها في منزلها خلال الحرب لرعاية والدها الذي يبلغ من العمر تسعة وثمانين عاماً، وشقيقها حيدر من ذوي الاحتياجات الخاصة والذي يحتاج إلى رعاية خاصة. تقول: "كنت أعيش في كابوس يومي، كل يوم أستيقظ وأقول لنفسي: هل سيكون هناك غد؟ كنت أضطر لإعطاء والدي وأخي حبوباً منومة، فلا أجد مكاناً أنقل فيه حيدر، خصوصاً في هذا الطقس البارد. قلت لنفسي، إذا كان علينا أن نلاقي الموت، فليكن ذلك بإرادة الله، سواء في المنزل أو خارجه".
في مشاهد تراجيدية عايشتها "النهار" من سرعين التحتا والفوقا والحلانية، مروراً بالنبي شيت والخضر وحورتعلا، وصولاً إلى بريتال ودورس، تعرضت عائلات بأكملها للإبادة، كما لو كانت أوراق شجر هزمتها رياح الخريف وجرّدتهم من كل ملامح الحياة. هذه المآسي تشهد على حزن لا يمحى من الذاكرة، ولا تزال نيران الفقدان مشتعلة في قلوب ذويهم، إذ إن هؤلاء هم أشلاء تُروى عنها قصص مؤلمة ترتبط بأطفال وبنات وأبناء وأشقاء، حيث تجسدت أحلامهم في إصرار أهاليهم على ألا يكونوا مجرد أرقام في سجلات التاريخ.