النهار

العاطفة استباقية ترابية لا روحيّة
A+   A-

هكذا تمّ تعريف العاطفة: "هي اتجاه وجداني، نحو موضوع معيّن، مكتسب بالخبرات والتعليم" كما هي: "حالة انفعالية معقدة موجهة، نحو شخص معين، أو شيء معين، أو شيء محدد، تدعو صاحبها للقيام بسلوك ما خاص به" وفي علم النفس: "تتمثل في مختلف المشاعر والأحاسيس". 

فعندما تعرّف العاطفة بأنها حالة انفعالية معقدة، إذاً هي استباقية في توّلدها من انتمائية ترابية، أكثر بكثير، من استباقية في تولدّها من انتمائية روحية. وبين هذين الانتماءين، تتدخل المشاعر والأحاسيس، والعوامل الوراثية والظروف الاجتماعية التربوية، والمعابر اجتيازاً أو مكوثاً، فتولد العاطفة في مهد عمقي مترجرج، ومهتز، وغير واضح...

العاطفة، إذاً، هي رهن تحوّلات داخلية سلبية أو إيجابية، طبقاً لرؤية الإنسان للأمور وتفاعله معها. فإذا جاءت الرؤية إيجابية، جاءت العاطفة بقدسية دورها، وإذا الرؤية سلبيةً جاءت، "دخلت العاطفة كاللص من النافذة وليس من الباب".

وعن السلبية الرؤيوية عاطفياً، ينشأ صراع هائج، يُظهر ما هو غير سليم سليماً، وما هو غير متطابق، متطابقاً، وكلّ هذا من دون أي رجوع للعقل، لأن العقل، في هذه الحالة منكفئ على نفسه، مموّه الدور، وغير واعٍ تماماً، لعلاقات الإنسان من جرّاء هذا الصراع، مع ذاته والمجتمع المتفاعل معه وفيه...

واستطراداً فلأنّ العاطفة، لها وجهان مختلفان، ومتناقضان ومتعارضان، تأتي بوجهها الإيجابي، لتحدث التقارب بين الأفراد، هذا التقارب الذي يتحوّل إلى وحدة تساهم في نشوء قوّة اجتماعية تساعد فعلياً في النموّ والتطوّر والتقدم. ولكن من صميم هذه الإيجابية، يصطدم المجتمع بجماعة تُسمى قبيلة أو عشيرة، وفي هاتين القبيلة والعشيرة، تلعب العاطفة لعبة المنتصر دائماً، فينشأ ما يُعرف الأخذ بالثأر دفاعاً عن وحدوية القبيلة، ووجودها وكيانها، من دون اعتبار ما يحدثه الأخذ بالثأر من أخطار فادحة، ترتدّ على القبيلة أو العشيرة بالأخص، وعلى المجتمع ودورته الروحية والاجتماعية بشكل أعمّ.

لم تأخذ العاطفة، هذه الفسحة الواسعة من السلبية الشرسة، والتخبط العشوائي إلاّ لأنّ المادة، أطّرتها، في لوحةٍ، تظهر الإنسان، في وجهه التوهميّ، وفي تصوره التخيلي، وأن الانطلاقة، حتمٌ عليها، أن تتمّ، في واقعٍ ما، وما في هذا الواقع من رغبات وشهوات وميول. وانطلاقاً من عاطفة هادرة، وهوجاء على طريقة "الفاجر يأكل مال التاجر" تخمد وظيفة العقل، وتنشلّ قوّته في التمييز، وتبدو جليّة تسمية، "الخطر العاطفي" وما في هذا الخطر من تلوّث العاطفة، بغبائر المادة وتحوّلها من نعمة إلى نقمة.

وأقرب برهان عن عبثية العاطفة السلبية وتأثيرها، الزواج. في بدء المشروع الزوجي، يقف الفريقان في عين العاطفة وقفة المقتنع، بمدلولاتها وإرشاداتها وتوجيهاتها، على أنّ هذا المشروع صالح ونخبويّ في كل زمان ومكان... والغيوم السوداء التي تمرّ في سماء هذا المشروع، ليست إنذاراً بهبوب الريح، بل هي مشبعة مطراً والأرض في خصب عظيم. يتمّ الزواج، فتكنّ العاطفة لتكاملية مهامها، ويطلّ العقل، على أنه الآمر الناهي، بعدما كان متفرجاً، ويبدأ عملية الاستقراء والاستنتاج، وتقع الكارثة، انتقالاً من الجزء الى الكل. فتبدو التفاصيل عندئذٍ على حقيقتها من اختلافات وتغايرات، في التفكير والرؤية والطبع والمزاج، والمصلحة البيتية، فينشأ النزاع، ويشتدّ الخصام، وتشتعل الحرب الزوجية، ويتهدّم كلّ بناء زوجي إلى غير رجعة.

ومن تمويهات العاطفة السلبية، أنّها تصوّر لإنسان محبّ وصادق، أنّه في محاذاة الآخر، للسموّ به من المادية السميكة، إلى الروحانية الشفّافة، وفي ذلك أجرٌ عظيم، فإذا بالتعاكسية، في مواجهة حادّة، فالمحبّ في خيبة، والمراد إنقاذه وانتشاله، وبعاطفته العمياء، مقتنع بهوّته، وأي توجيهٍ نوع من التحدّي، فيقع الاثنان، الأول في التحسّر والتوجّع، والألم، والثاني في الضياع الكليّ، والغرق الحتمي في الظلمة البرانية، والمؤسف أنّ الإيمان عاطفياً، جاف، وجاهز دائماً ليكون من الغرقى. ومن إيعازات العاطفة السلبية، أنها توقع أباً مثلاً في حفرة الأنانية حتّى الاختناق، بحيث ينصرف الأب، انخداعاً وجهلاً، وتهوراً، إلى إشباع جوعه الجسدي من النواحي كلها، غير آبهٍ للشوك الذي يعذّب أبناءه، ويدميهم، ويحفّر طريق راحتهم ومصيرهم.

لا يعتقدنّ أحد، أنّ العاطفة السلبية والمتوحشة هي لزاماً، من الأمراض المستعصية، والمغتربة عن شفائية تتيسر من وعي روحي، ومن صدق ذاتي، ومن تمييز نوعي. فإذا ما انتصر الإنسان بإرادته على كلّ نزعاتها السلبية، استيقظت في أعماقه العاطفة الإيجابية البنّاءة والواعدة.

العاطفة في عمقٍ طاهر ونقيّ، هي نور وحياة، وفي عمقٍ مادي وفاسد، هي ظلمة وموت.

الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium