ستالون في كانّ: درس في العفوية ومعرفة حدود الذات

وصل سيلفستر ستالون إلى مهرجان كانّ السينمائي (١٤ - ٢٥ الجاري)، مرتدياً قميص كارو ومنتعلاً حذاء كاوبوي. أخذ حدث استضافته في المهرجان طابعاً تكريمياً: عرض مشاهد من جزء "رامبو" الأخير الذي سيخرج في أيلول المقبل، اضافةً إلى الجزء الأول منه، فلقاء مع الجمهور أداره ديدييه علوش.

 اللقاء الحاشد كان الأهم. اذ اكتشفنا وجهاً آخر للرجل الذي مثّل طوال حياته بعضلاته. وجدنا شخصاً يعلم انه ليس نابغة، وهذا أجمل ما فيه. فنّان قدماه على الأرض على الرغم من شهرته الواسعة. أيقونة لا تملك ذرة ادعاء وغرور رغم الـ"أوسكار" وملايين الإيرادات في شبّاك التذاكر.

تحدّث سلاي عن سيرته المهنية مذ دخل السينما قبل أربعين عاماً (هو اليوم في الثانية والسبعين) بعفوية وبساطة وأحياناً بسخرية من الذات. بدايةً، سأله علوش عن التيمة التي تنطوي عليها أفلامه، أي الصمود، فكان ردّه: “هكذا هي الطبعية البشرية. حضارات انقرضت ثم عادت. لذلك، أنا مع النضال، وعدم قبول الخسارة أياً تكن، واذا حصل لا بد من بناء الذات مجدداً”.

كشف ستالون انه أُعجِب بستيف ريفز في دور هرقل، “واحد من أسوأ الممثّلين”، وصاح “يا الهي” عندما رأى جسده المنتفخ وهو لا يزال صبياً. عرف حينها ان مستقبله هنا. فبدأ يشتغل على جسده. كلّ شيء انطلق من هنا. تحدّث كذلك عن صعوبة النطق التي كان يعاني منها عندما بدأ في السينما، ذلك انه تعرض لحادثة عند ولادته. عندما كان يمثّل في اعلانات تجارية، لم يكن المخرجون يفهمون ما يقوله وفي أي لغة يتكلّم.

بتواضع يُحسد عليه، قال ستالون انه لا يميز نفسه عن أي شخص من الحاضرين في الصالة. “كلنا نعلم ماذا يعني خوف ووحدة وانتصار واخفاق، واذا تناولتَ هذه المواضيع، فسيجد الناس فيها أنفسهم. أما اذا كنتَ فوق الألم وفوق الخوف، فلا أحد سيكترث بك، فأنت لا تعود إنساناً في هذه الحالة. ان تكون إنساناً يعني ان تجري توازناً لكلّ الضعف الذي فيك لتحويله قوة. هكذا هي الحياة؛ تعتقد انك قوي، ثم بعد لحظة يصلك إتصال يغير مجرى حياتك إلى الأبد”.

كان لا بد من ان يميل الحوار صوب أشهر سلسلتين سينمائيتين صنعتا مجده: “روكي” و”رامبو”. عن الثانية قال انها تتعاطى مع الجانب المظلم للطبيعة البشرية التي يتعايش معها للأسف كثر من الناس. أما الأولى فهي أكثر تفاؤلاً في نظره، اذ ان روكي يعي انه ليس إنساناً مميزاً، فيحاول ان يكونه.

قال ان "روكي" على الورق كان “فشلاً مضموناً”. فهناك ٣٠٠ فيلم عن الملاكمة، و٢٩٩ منها لم تنجح. لكن شيئاً ما حصل في حالة “روكي”. الفيلم أُنجز في ٢٥ يوماً وكلّف أقل من مليون دولار. لكنه مسّ شيئاً ما من خلال حكاية رجل وحيد يلتقي إمرأة، فيولد مجدداً. "لم أتوقف عن التوضيح أنه ليس فيلماً عن الملاكمة، فالملاكمة مجرد مهنة يزاولها، كان يمكن ان يصلّح الدراجات، لكن الملاكمة هي ميتافور هنا. وصادف خروج الفيلم في العام ١٩٧٦ مع ذكرى ٢٠٠ عام على تأسيس أميركا. وخرجت أفلام سوداوية جداً في تلك المرحلة، مثل “تاكسي درايفر” و”شبكة” و”كلّ رجال الرئيس”. أنا كنت ساذجاً فصوّرتُ فيلماً متفائلاً. حالفني الحظ ان الناس كانوا يبحثون عن التغيير".

روى سلاي انه لم يكن يعلم ماذا يفعل خلال تصوير "روكي". الكلّ عمل بلا مقابل والملابس التي كان يرتديها الممثّلين كانت ملابسهم. الفنّ يأتي أحياناً من حيث لا نعلم، أكّد الممثّل الذي كنّا نشاهد أفلامه على شرائط فيديو خلال الثمانينات في بيروت. “لم يكن لدينا حتى مدير تصوير جيد. كلّ شيء كان منتهى السوء. لهذا أردد دائماً انه لا يمكن ان تعلم من أين يأتي الفنّ أو النجاح، ذلك ان مغامرة روكي كان فشلها مضموناً. وعندما أُنجز، لم يُعجب المموّلين، فرفضوا توزيعه، ثم بعد إلحاح، وافقوا ان يتم عرضه في “درايف إن”. أصلاً، لم يرغبوا فيّ كممثّل، كانوا ليفضّلو عليّ كانغورو حتى”.


دعا ستالون الجمهور إلى ان يصدّقه انه كان “لا أحد” قبل إنجاز “روكي”. كان يعمل في مرأب، ولكن حياته تغيرت فجأة. كلّ ما احتاجه للنجاج هو فكرة جيدة واحدة، مقابل مئات الأفكار السيئة التي خطرت في باله. شدد كثيراً على فكرة ان الفشل يجعل الإنسان أحياناً أكثر ذكاءً، في حين يجعله النجاح أكثر حماقةً في بعض الأحيان، لاعتقاده انه لم يعد يحتاج إلى ان يتعلم.

في شأن الأجزاء الأخرى لـ”روكي” أو “رامبو”، تساءل ستالون لماذا نتقبّل المسلسلات التي يستمر بعضها لعشر سنين، ولا نتقبّل فكرة ان تكون هناك أجزاء أخرى لفيلم، وخصوصاً اذا كان الجزء الأول يتحدّث عن شخصية في مقتبل عمرها.

عن تورطه في إخراج الجزء الثاني من “روكي”، قال ستالون انه اضطر إلى ان يتولاه بنفسه بعدما رفض طلب المخرج جون أفيلدسن في جعل روكي سكّيراً وفاسداً. لكن الإخراج عنده أمر صعب للغاية يمنعه من النوم في فراشه.

السيناريو نفسه تكرر عندما أراد إنجاز “رامبو”، فلا أحد كان رغب في تمويله. يقول ستالون انه لو نقل الشخصية كما هي في الرواية، أي بكلّ وحشيتها التي تدفعها إلى قتل الجميع بمن فيهم النساء والأطفال، لأضحى الفيلم “فكرة سيئة”، ولكنه ودّ تعديل تلك الصورة لروكي وازالة وحشيته. “قلتُ لمَ لا نجعله رجلاً محطم القلب يعود إلى أميركا التي هي بمثابة أمه، فتنبذه…”.

لا يخفي سلاي حقيقة انه كان محدوداً كممثّل، على مستوى المظهر. “في الأكتورز ستوديو، يؤمنون بأن على الممثّل ان يكون متغيراً، هذه نظرية جميلة ولكنها غير صحيحة. توجد أدوار محددة أستطيع ان أضطلع بها، وغيري كذلك. داستن هوفمان لا يستطيع ان يكون رامبو وأنا لا يمكنني ان أكون توتسي. لذلك، ركّزت في أفلامي على الميثولوجيا التي لطالما أحببتها. اليوم أجد ان الإنسان ضد نفسه والسيستم. حاولتُ البقاء في هذا المجال وعدم الخروج منه، لأن هناك آخرين يستطيعون القيام بأشياء أخرى أفضل ممّا أفعله. وكلّ مرة ابتعدتُ عمّا أجيد صناعته تعرضتُ للفشل فعدتُ إلى حيث أنتمي”.

في شأن الجوائز كالـ”أوسكار” وغيرها، قال انه لا يؤمن بالتنافس بين الممثّلين، الا اذا كان جميع المرشّحين يضطلعون بدور واحد، فيمكن حينها دراسة مَن الذي مثّل بشكل أفضل.

بالنسبة إلى ستالون، لا توجد أزمة إلهام، فبمجرد ان يتصفّح الجريدة، قد يخرج بأربع أفكار، ذلك ان “الدراما الإنسانية في كلّ مكان”.


ستالون والسياسة “دونت ميكس”! عندما أنجز “رامبو” كان “ملحداً” سياسياً على حدّ تعبيره، ولم يكن انتخب قط في حياته. وجد في “رامبو” قصّة رائعة، لا علاقة لها بالسياسة. ثم، قام ببحوث ليكتشف ان الكثير من الجنود العائدين من فيتنام انتحروا. في الرواية التي اقتبس منها الفيلم، كان رامبو آلة قتل أشبه بفرانكنشتاين، فقال لنفسه انها ليست الرسالة التي يودّها: “شعرتُ نفسي مسؤولاً عن آلاف الجنود المنتحرين، فعدلتُ الشخصية كي تصبح في الأخير مدركةً لقلقها وحالتها المعنوية. والجمهور وجد نفسه في رامبو، لكنه لم يكن فيلماً سياسياً في المقام الأول، وإن أصبح كذلك لاحقاً. لم يكن في قصدي ان أقدّم خطاباً سياسياً، لستُ بهذا القدر من الذكاء. لستُ وحشاً سياسياً ولا أريد ان أكونه، ولكن يا إلهي، “رامبو” انتشر! لم أتلق التعليقات على يمينيته، بشكل شخصي. فهو رجل بسيط، ترعرع بالعقلية الوطنية المتشددة التي كانت سائدة آنذاك. هو يعتقد انه يفعل خيراً وسعيد بذلك!”.

انتقد ستالون الثمانينات والتسعينات التي شهدت الكثير من الأفلام الرديئة، وهو وقع فيها بطبيعة الحال. المرحلة كانت لمفهوم النجم، في حين اليوم هناك غلبة للقصّة. في رأيه ان الفيلم ينجح اذا كان جيداً بغض النظر عن الممثّل الذي فيه، أما في الماضي فكان الأمر مختلفاً، اذ ان وجود أرنولد في فيلم يضمن نجاحه الجماهيري. في هذا السياق ذكر ان ابنته سألته كيف مثّل في بعض الأفلام الرديئة، فكان ردّه عليها: “اسكتي، كيف تعتقدين أنني دفعتُ أقساط مدرستك؟”.

عن “كوبلاند” لجيمس مانغولد (١٩٩٨) الذي أتاح له المجال ليؤكد على جدارته التمثيلية، قال: “كنت ذهبتُ أبعد ما يمكن في الأفلام التي تتطلب قوى بدنية، فأردتُ محاولة شيء يعري اسطورتي. اللافت أنني أضعف شخصية في الفيلم. كنت عرضه لكلّ أنواع الحقارات من هارفي كايتل وراي ليوتا وروبرت دنيرو. كنت أقول في سري: لو أنا الآن في فيلم أكشن، لقتلتهم جميعاً ولم يكن ليتبقى أحد حتى الفصل الثاني. كانت مشاركتي في الفيلم نابعة من جرح، دعوني أكون صريحاً معكم. كان يُقال دائما ان ممثّلي أفلام الأكشن لا يجيدون التمثيل، وعادةً هذا صحيح. ولكنني وددتُ المحاولة. كان الفيلم امتحاناً لي”.

مع “روكي” الجزء الخامس، اعترف ستالون انه لم يستطع خلق الشرارة المطلوبة، وتعرض لانتكاسة بعدما رفضه الناس، فطُرد من الوكالة التي يتعامل معها، وشعر باحباط شديد، ثم حاول اعادته مجدداً في “روكي بالباو”، ولكن رفضت الاستودويات تمويله، وقالوا له: “أنت انتهيت والكاركتير انتهى”. تفهّم ذلك نوعاً ما لأنه كان قد مرّ الكثير من الوقت منذ الجزء الأول. فخطر في باله ان يعيد تشكيل الشخصية انطلاقاً من فكرة ان الحياة مرحلتان: قبل الخامسة والأربعين يكون كلّ شيء على ما يرام، ثم كلّ شيء يتراجع، يخسر الإنسان وظيفته ويموت أصحابه ويغادره أولاده. فأراد من روكي ان يخرج منه الوحش ليبدّل الألم القديم بالجديد. ”روكي بالباو” يعتبره ستالون اليوم من قمم سيرته المهنية، ولديه فكرة ممتازة لإعادته إلى الشاشة.

عن سلسلة “اكسبندبلز”، التي تعيد إلى الشاشة مجموعة من أبطال أفلام الأكشن اشتهروا في ثمانينات القرن العشرين وتسعيناته، في مقدمهم أرنولد شوارزينيغر، قال انه خطرت له الفكرة عندما حضر حفلاً لمغنيين قدامى مع زوجته. “عندما ترى مغنياً كان نجماً قبل ثلاثين عاماً، أحياناً يكون قد فقد بريقه. في حفل حضرته مع زوجتي يعيد احياء الفرق الموسيقية القديمة، رأينا مثلاً “الأخوان ريتشاردز”، اللذين لم يبق منهما سوى أخ واحد. وفرقة مثل ”ليلة الكلاب الثلاثة” التي بقي منها كلب واحد، وهكذا. فهمتُ وقتها انه لا يمكن ان تدفع فلساً واحداً لمشاهدة أحد هؤلاء، ولكن قد تفعل اذا اجتمعوا كلهم في مكان وزمان واحد. فاقتبسنا الفكرة سينمائياً. أساس الفكرة هو الفضول. مجدداً أقول: لا تعرف من أين يأتي الالهام”.

عن علاقته بصديقه شوارزينيغر، قال ستالون انهما كانا أحدهما يكره الثاني في الماضي، وان بعض الأشياء التي قاما بها مؤخراً معاً كان يجب فعلها قبل ٤ عقود، ولكن لا حد منهما استطاع ان يطيق الآخر في أي يوم من الأيام. وفي هذا الصدد اعتبر ان كلّ إنسان يحتاج إلى عدو وهمي ينافسه، واذا لم يجده في الحقيقة عليه ان يخلقه، علينا دائماً ان نكره أحد ما.

مثّل ستالون في أكثر من ٦٠ فيلماً، ٢٤ منها من تأليفه وثمانية من اخراجه. لا يخفي انه سعيد بما قدّمه، اذا انه يطور الأشياء التي يجيدها ويترك للآخرين ان يبرعوا في المجال الذي يبرعون فيه. ولكن لم يفكّر يوماً في ارثه السينمائي، فهذا شيء لا يتعلّق به، ناصحاً بعدم الكف عن النضال، ذلك انه “لا يوجد أحد لا يملك شيئاً ليثبته”.