لسبب أو لآخر، فهمتُ فوراً أنها ستكون المرة الأخيرة التي سنتبادل فيها أحاديثنا "الزعرة" التي تليق بالمُتمرّدات اللواتي لا ينتمين إلى أي مكان. في هذا اللقاء الأخير لم أشبع من تقبيل يدك وكأنني كنت أعرف سلفاً أنني أريد بأي ثمن أن أحتفظ برائحة جنونك التي طبعت أيام الصبا في سنواتي الأولى في الحمرا. وكما هي عادتك كنت تمزجين اعترافاتك الحميميّة بالكلمات النابية التي ترعرعتُ عليها ولم أملّ منها يوماً. وفجأة في منتصف الحديث، وبعد صمت غير مُريح أربكني، هتفتِ: "أحلى الواحد يضيع وما يعود واعي على شي. أحسن ما يقعد ينطر الموت". وقبّلتُ يدك مرة أخرى وكلّمتك عن أبي، "أو الياس الأزعر يللي ما كان يسرّب على البيت"، كما كان يحلو لك أن تُردّدي دائماً. "آخرتنا قاسية، Mais Je suis Heureuse. عشت متل ما بدي والياس الأزعر كمان.
بس آخرتنا كلنا كانت قاسية". سألتك عن الرسم، "خلص، ما بأى في شي يعنيلي". همستُ، "الياس كمان ما بأى يكتب. ما بأى بدو". وللمرة الأولى خلال كل هذه السنوات التي كان لي الشرف أن أعرفك فيها، اقتربتِ منّي وطبعتِ قبلة على جبيني. حاولتُ ألا أبكي لأنني أعرف جيداً أن الأحاسيس تجرحك. وسُرعان ما رحت تمازحينني على الرغم من التعب الذي كان يُزخرف وجهك المحفور في قلبي إلى الأبد. وكأنك أنت أيضاً كنت تعرفين أنها ستكون المرة الأخيرة التي سنلتقي فيها، أمسكت بيدي وكان صوتك غريباً بعض الشيء عندما قلتِ: "ما تكوني صادقة هلقد. وما تحبي حدن أكتر من حالك. هلّق تعبت أنا. Je te promets أنو منرجع نشوف بعض. وببعتلك رسالة بطمنك فيها عني. بس أنا صرت مزاجية وما تزعلي منّي إذا اختفيت".
وقبلتُ يدك مجدّداً وكأنني أقبّل من خلالها كل الكبار الذين غادرونا ولم يعلموا بأنهم أخذوا معهم الروح. قبّلتُ يدك وأنا أعرف أنني لن أراك مجدّداً. تبادلنا النكات الزعرة مجدّداً، وودّعتني بكلمة نابية تختمين بها كل حواراتنا الحميمة. "قوليلو لالياس متل إجرو. وما يكتب. خللي يمد إجريه ويرتاح". ولسبب أو لآخر قلت لك مجدداً، "لوريتا، خليني إرجع شوفك. ما تختفي". "خلص حلّي عنّي بلا تراجيديا. قلتلك منرجع منشوف بعض Je te promets". وقبّلتُ يدك مجدّداً ولامست يدك شعري. وعندما خرجت من الغرفة وأغلقت الباب، كنت أعرف أنها المرة الأخيرة التي سأشمّ فيها رائحة جنونك التي هي في الواقع رائحة كل هؤلاء الكبار الذين يتساقطون أمامنا كالأوهام التي تمسّكنا بها طويلاً، هرباً من اللحظة الأخيرة.