لمى صفير مصمّمة وفنانة متعددة التخصصات، توثّق أعمالها رحلتها الفنية الشخصية، وتستكشف من خلالها موضوعات الهويّة وقبول الذات بين قارتين. لطالما كانت تتوق في طفولتها إلى تحرير نفسها من محاولات والدتها المؤلمة لترويض شَعرها بالتسريح. شعرُها الكثيف صار مصدراً للعيب والاستهزاء في بيئتها وعائقاً أمام قبولها لذاتها الحقيقية. على مدى أكثر من عقدٍ من الزمن، عملت على جمعِ خصلات شعرها المتساقطة من حوض الاستحمام، مستخدمة إيّاها كأصباغ لاصقة على جدار الحمّام، تشكّل بها انتقاداتها الاجتماعية المتكررة ومواقفها الجريئة التي تتحدّى الصور النمطيّة الراسخة، بالإضافة إلى الرسومات والأرابيسك، كنوعٍ من التمثيل لجزء خفيّ من هويتها ومن خلال الاستكشاف المرِح، محوّلةً شَعرها، حامل القصص والذكريات المؤلمة، من مصدر للمعاناة إلى وسيلة لاكتشاف الذات. لمى صفير كتبت هذا النص المرفق بكلمة "ناطرين"، مشكَّلةً بخصلات شعرها المتساقطة على أرض الحمّام:
أتصل بأحبّائي لأسألهم عن أحوالهم وأساندهم في محنتهم. يردّ عليّ الجميع بإجابة موحّدة: "ناطرين"، نحن ننتظر.
بعد الانهيار الاقتصادي في عام 2019 مع ما رافقه من شحّ في العملة الصعبة، وما تلاه بانفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب 2020، يأتي الآن قلقٌ آخر حول سؤال ما إذا كان الاقتتال في جنوب لبنان سيمتدّ إلى كامل البلاد – وهو ما سيشكّل كارثةً حقيقية لسنا جاهزين لها. أولئك القادرون على تحمّل تكاليف السفر انتقلوا وعائلاتهم إلى خارج لبنان كإجراء احترازي، بينما سارع آخرون إلى تخزين السلع الأساسية تخوّفاً من احتمال قدوم أيّام أشدّ حلكة. الأهل في حالة تأهّب دائم لاستلام أولادهم من المدرسة حال حدوث تصعيد مفاجئ. الجميع ينتظر خطابات السياسيين، آمِلين أن يتّخذ هؤلاء القرارات الأنسب للبنان وشعبه.
لقد نشأنا في كنف هذه المخاوف في هذا الجزء من العالم، فوجدنا أنفسنا مضطرّين إلى مقايضة سنوات الشدّة بالجنسية المزدوجة، لا لتأمين نمط حياة نرغب به، ولكن من أجل الوصول إلى برّ أمان. ترفٌ لا يمتلكه الجميع هو توضيب الحقائب ومغادرة البلاد في حالات الطوارئ، فكثير من اللبنانيين ليس في مقدورهم تحصيل قبول لتأشيرة دخول تُختم على جوازات سفرهم.
ولدتُ في بيروت عام 1980، وشهدت أربع حروب وعشرات التفجيرات المستهدفة، اثنان منها باعدت بيني وبينها بضع ثوانٍ فقط. على إثر ذلك، تأجّلت أحلامي لأسباب خارجة تماماً عن سيطرتي.
أعيش الآن في نيويورك، ومنها أتصل بأحبّائي لأسألهم عن أحوالهم وأساندهم في محنتهم. يردّ عليّ الجميع بإجابة موحّدة: "ناطرين"... "نحن ننتظر". لقد توصّلت إلى إدراكٍ مفاده أنّ ثقافتنا باتت معلّقة في حالة انتظار - ترقّبٌ دائم تحت طيف الكارثة المقبلة.
نحن ننتظر انتهاء الأزمة الاقتصادية، ننتظر انتهاء الحرب، ننتظر أن يحقّق جيراننا السلام، ننتظر عودة الكهرباء، توفُّر الدواء، حلولَ اللحظة المناسبة لتأسيس مشروع تجاري، عودة المدارس الى العمل. ننتظر استقرار العملة ومساهمة المغتربين في دعم الاقتصاد خلال فترات الأعياد. ننتظر الموافقة على تأشيرات الدخول، تجديدَ جوازات السفر، الانتخابات، وعود السياسيين، والآن، ها نحن ننتظر لنرى ما إذا كانت الحرب ستمتدّ إلى كامل أرجاء البلد.
هي حياةٌ نعيشها في الانتظار. لقد اكتسبنا مهارة بناء أحلامنا في محطّات العبور، وعلى بنى متضعضعة، آملين بأن يهدأ اضطراب الركام تحت أقدامنا في نهاية المطاف. إننا نتكيّف مع أي موقف ونتذاكى على النظام، فنولّد طاقتنا الكهربائية بأنفسنا ونتأقلم مع دولةٍ بلا رئيس جمهورية ونتغاضى عن السياسيين الفاسدين، ليس لأننا غير مبالين، بل لأننا نتوق إلى الاستقرار. يسحبنا تيّارٌ جارفٌ من انعدام اليقين، فنحبس أنفاسنا ونخطو قدُماً، منتظرين الطلوع إلى السطح لنلتقط أنفاسنا ونأخذ قسطاً من الراحة.
ليس هذا الانتظار حالةً مؤقتة. هو واقعنا. إننا نتكيّف معه. أراقب ما يحدث اليوم في المنطقة فأتذكّر أننا جميعاً نعاني الوضع نفسه.
غادرتُ بيروت في عام 2010 عقب سلسلة من التفجيرات بدأت في عام 2004، وكان أبرزها اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري. استُهدِف السياسيون والصحافيون في تلك التفجيرات في الأماكن العامة، ولم يعد في الإمكان اعتبار أيّ منطقة آمنة. أمّا أنا وأصدقائي فقد خلقنا لأنفسنا شعوراً وهمياً بالأمان. قدنا سياراتنا على الطرق التي شهدت استهدافات سابقة وزرنا مراكز التسوق التي طالتها التفجيرات لأننا استبعدنا تعرّض هذه الأماكن للاستهداف مجدداً. انتظرتُ مرورَ موسم الدمار، غير أنه لم يمرّ قطّ.
دائماً ما غلبني الحزن لرؤية الأصدقاء المقرّبين وأفراد العائلة الواحدة يتشاجرون حول وجهات النظر والاتهامات السياسية، والتي كان معظمها على هيئة تخميناتٍ تحيط بهوية مرتكبي التفجيرات. أمّا أنا فجلست على جنب، أراقبهم فيما هم يمزّقون أواصر صداقاتهم العميقة لصالح انتماءاتهم إلى الطوائف الدينية والأحزاب السياسية. لقد غدت التبعيّات الإيديولوجية أمتن من الوفاء لمن نحبّ، ولعلّ حالتنا نموذج لما يحدث على امتداد العالم كله اليوم.
كانت مخططاتي كفنّانة في تناقضٍ مع بيئتي المحيطة، فقد كنت أتمنى تناول مسائل الهوية والانتماء والوقوف ضد العنصرية والإشارة إلى الاختلافات الثقافية والتمييز ضد الأجانب، وكانت نيتي تحفيز روح التسامح والتغيير الإيجابي، لكنّ تلك القضايا بقيت في حالة ركود في منطقتنا المضطربة.
في كلّ مرّة حاولت مناقشة هذه المواضيع في المناسبات الاجتماعية، كان يتمّ إسكاتي ليتغيّر مسار الحديث إلى كيل المديح للزعماء السياسيين الذين يحبكون خططاً تغذّي الكراهية للأحزاب الأخرى وتعمّق الانقسام. لقد طُمست آرائي الصريحة وغابت خلف أصوات السياسيين الفاسدين الذين يلعبون أدوارهم على كلّ شاشة. كنتُ أجد متعةً خاصة في مشاهدة خطاباتهم بلا صوت ومراقبة لغة أجسادهم، مسكِتتة أصواتهم كما قمعوا صوتي. لقد أفقر هؤلاء السياسيون عائلاتنا، هدموا منازلنا، حطموا أحلامنا، واغتالوا مواطنينا.
عندما تركتُ بيروت وهاجرت إلى الولايات المتحدة قبل أكثر من عقد من الزمن، قطعت على نفسي وعداً بالإقلاع عن لعبة الانتظار. لقد قررتُ بشكل قاطع ألّا ألتفت خلفي أبداً.
إذ أتأمّل حالة العالم اليوم، وألاحظ ازدهار الكراهية وتبادل الاتهامات على وسائل التواصل الاجتماعي، أجدني أعود إلى الأسباب التي دفعتني إلى مغادرة بلدي. في ذلك الوقت، كانت الفوضى منتشرة على مستوى أضيق وبشكلٍ أكثر احتواءً، أمّا اليوم فتتمدد الفوضى بشكل مطّرد وعلى نطاق العالم أجمع. إلى أين أذهب الآن؟
اليوم، أنتظر أن تجد الأمور طريقاً للحلّ، على أمل أن أعود يوماً ما لأتقاعد في ذلك المكان المحيّر، في وطني.