عاد عمّار نذير سنان في كتابه "من اسطنبول إلى حيفا" الصادر عن دار النهضة العربيّة (طبعة أولى 2024) إلى بداية تشكّل الوطن العربي مستعيناً بالسرديات التاريخيّة بين عامي 1890 و1948، لكن بمنهج كتابيّ مغاير بدأ بإدخال قصص وتجارب شخصيّات عاصرت الأحداث والتحولات المفصلية سياسيًّا وجغرافيًّا سواء في سوريا، فلسطين المحتلّة، لبنان أو غيرها من الدول، ما جعل السياق يقوم على القصّ والمعرفة.
التاريخ السياسيّ: جسر بين القصص العامّة والخاصّة
أعاد سنان نسج الأحداث التاريخيّة بدءًا من محاربة العثمانيين ومحاربة الانتداب البريطاني ومعارك الأمير فيصل بن الحسين السياسيّة والعسكريّة، لكنّه لم يتوقّف عند هذه العملية فحسب بل مدّ جسرًا قصصيًّا منظّمًا ومتماسكًا يعرّف المتلقّي إلى الإخوة الخمسة من آل التميمي انخرطوا في السياق السياسي والنضالي بعيدًا من الأضواء والتأريخ، والحقّ أنّ الكاتب الذي تربطه قرابة من جهة الأم بهذه الشخصيات قد أخرج نفسه من لعبة السرد ومنح دور الراوي لشخصية من الشخصيات الخمس وهو الدكتور رشدي، ما جعله خارج لعبة التحيّز ونسج الأبطال وتضخيم الإنجازات.
فضلًا عن ذلك فإنّ توثيق المعلومات وارجاعها إلى وثائق ومراجع رسّخ الموضوعيّة وأعطى العمل طابعًا معرفيًّا بقدر ما هو طابع شخصيّ عاطفيّ، ولعلّ التسلسل في سرد الحكايا المتعلّقة بكلّ شخصيّة والنهاية التراجيديّة التي اختتمت مسيرتهم قد خلقت مبنًى حكائيًّا كسر بدوره المعيار التواصلي التي تفرضه الأحداث والتواريخ وبنود الاتفاقيّات وغيرها، لتشكّل حكايات آل التميمي صلة وصل بين طبقتين: الأولى على الصعيد النوعيّ والمرتبطة بمزج الأسلوب القصصي الإبداعيّ بالأسلوب البحثي المعرفي الاسترجاعيّ، والثانية على صعيد القراءة حيث خلقت القصص مجتمعة مسارًا ومزيجًا غريبين عزّزا عمليّة التلقّي، كما منحت المتلقّي التشويق والتحدّي لاختبار ذاته المعرفيّة.
الأسلوب القصصي وتداخل السياقات
استطاع الراوي الدكتور رشدي التميمي أن يعطي كلّ قصص أشقائه بالإضافة إلى الأحداث التاريخية والسياسية المعروفة بعدًا قصصيًّا من خلال عناصر عدّة: بدءًا من السرد المرتبط بزمنين: الماضي البعيد والذي يتطلب استرجاعًا وعودة إلى المعلومات والوثائق والحاضر الذي بات ماضيًا بالنسبة إلى القراء، وهو المرتبط بتفاصيل حياة الدكتور رشدي خلال اجتياح إسرائيل بيروت عام 1982 الذي يكتب الأحداث والحكايات بعد مراسلة بينه وبين ابن أخيه، وهذه الإشارة في السرد تعيدنا إلى معادلة "التاريخ يعيد نفسه" قديمة جديدة يردّدها العرب والكاتب أرادها رسالة تنعش ذاكرة القارئ، فاجتياح لبنان عام 1982 يشبه إلى حدّ كبير اجتياح اتفاقيّة "سايكس بيكو" مثلًا للمنطقة العربيّة، ويشبه منح بلفور وعدًا لليهود بإقامة دولة فلسطينيّة، ليكون تناوب الزمنين وتحكّمهما بمفاصل السرد بمثابة حثّ لتكوين موقف مضمر من الواقع الأزليّ، أمّا الأمكنة، فقد اتخذت حيفا وبيروت والشام واليونان وغيرها مساحة أفسحت المجال لدخول عنصر الوصف إلى جانب عنصر الحركة وهو ما شكّل تداخلًا مقبولًا، في المقابل ظهرت الشخصيّات التي نطق الكاتب بقصصها فقط على أنّها عاملٌ مساندٌ للرموز من ناحية المبدأ العرقيّ والسياسيّ، لكنّها بقيت هامشيّة تحاول بناء قصصها مقارنة بقصّة المنطقة ككلّ ما شكّل تداخلًا غير متكافئ، فالكاتب الذي كاد يلامس في لغته وسرده العمل الروائيّ جعل سيرة ومسيرة هؤلاء متقطعة كقصص مستقلّة، مترابطة بشكل متين مع السياق الأساسيّ.
لم تكن لغة سنان جامدة أو علمية كما تتطلب عادة الأعمال البحثيّة أو السرديّات المباشر بل اتجهت نحو المرونة من الناحية المعجميّة والسرعة إيقاعيًّا لسهولتها وهو ما يحيلنا أيضًا إلى الشكل الخطي المعتمد طباعيّا حيث قُدّم الكتاب بمساحات بيضاء بين السطور، الأمر الذي يشجع نفسيّاً على متابعة القراءة والخروج من "عُرف" الهيكليّات البحثيّة الشكليّة التقليديّة، وقد لعبت الصور البيانيّة والشخصيّة أيضًا دورًا جوهريًّا في تعايش القارئ مع الحدث المقروء والشخصيّات المذكورة.
كان عمّار نذير سنان قادرًا على تحويل الوثائق وقصص آل التميمي إلى عمل روائيّ، كون النص المكتوب مهيّئ لذلك، لولا جعله من قصصهم في خدمة تاريخ الواقع العربيّ، لكنّه في المقابل نجح في تقديم وثيقة تاريخيّة تفتح مسارًا جديدًا في سبيل قراءة الواقع العربي.