رياض بيدس
خرج متضايقا شبه مختنق من البيت. لا يعرف أين يذهب - أساسا لا توجد مطارح كثيرة للذهاب اليها. ثلاث سنوات من الكورونا أنقضت بعدما كادت توصلهم الى ديار البلاء. يتردد، ثم يشكر الله لأنه لم يكن هو أو زوجته أو أحد أفراد العائلة ضحية من ضحايا الكورونا. رغم ذلك فإن كوابيس الرعب التي عاشوها على مدار ثلاث سنوات كانت أهول وأرعب من أن يتخيّلها عقل.
في كورونا؟ – ما في كورونا؟ المهم أن منظر التوابيت المكدسة في اوروبا والموتى شيء رهيب جدا. أفلام رعب الكورونا لا تنسى وتنذكر ولا تنعاد!
منذ أكتوبر 2023 نشبت حرب مدمّرة على غزة. الأحداث المدمرة والمرعبة تزداد حدة وضراوة. يسأل زوجته: كيف نستطيع أن نشاهد نشرة الأخبار؟! لمرة واحدة لم يستطع هو أو زوجته مشاهدة نشرة أخبار واحدة كاملة. شذرات من نشرات أخبار على فضائيات مختلفة. وعند مشاهدة الضحايا من الأطفال والمدنيين الفلسطينيين يتم تغيير المحطة بسرعة. الصور تعلق في الرأس ولا تزول. ألا يوجد أحد يوقف هذه الحرب المدمرة؟ ولا أحد.
يتابع سيره في الشارع المؤدي الى منطقة فيها شقفة من الطبيعة كان يعرفها جيدا منذ طفولته. يدخل اليها كما لو كان يدخل معبدا. ينظر حوله ليرى ما اذا كان أحد من السكان يراه أو يراقبه. أوف، أرجو أن لا ينتبه أحد الى هذه الشقفة الصغيرة من الأرض والطبيعة المزدهرة فيها ويقوم بتعشيبها ولا يبقي العشب الأخضر فيها. ألا ليتهم لا يفعلون. هذه الشقفة الصغيرة من الأرض مع الأعشاب الخضراء المنتشرة فيها بغزارة بعد الشتاء القوي تبعث الراحة في نفسه. يتأمل الأعشاب الخضراء كما لو كان يود إلقاء نفسه فيها ويخلد الى الراحة وهو يمكث في مكانه مراقبا أدق تفاصيل الأرض. تفوح من هذه الأرض مع أعشابها رائحة ولا أطيب. يستعيد في ذاكرته أن كل هذه المنطقة الكبيرة نسبيا كانت خالية من البيوت والسكان. أما الآن وبعد سنوات عديدة امتلأت بالسكان ولم تبق الا قطعة الارض الصغيرة الخضراء هذه، مع كثير من البيوت والباطون وشقف أرض جرداء أخرى لا تلفت النظر.
كان يريد أن يتحدث مع أصحاب هذه الأرض الصغيرة المعشوشبة أن لا يقلعوا أعشابها أو البناء فيها، لكنه تردد. يجب أن لا يثير اشتباه أحد الى الشقفة الصغيرة من الأرض.
بعدما تجوّل قليلا في شقفة الأرض الخضراء وعلى مقربة منها وشبع من منظرها ورائحتها خرج خائفا عليها. نظر حوله متفحصا المكان، ثم شرع في متابعة السير. المصائب تتالى: ثلاث سنين عجاف كلها رعب وخوف وكوابيس من الكورونا، والآن أكثر من أربعة اشهر من الحرب المدمرة على غزة. أنهم يسرقون حياة الأطفال والجميع دون وازع أو رادع، يريدون أن يرحل أهالي غزة عن غزة، شيء يجنّن اللي بعمرو ما انجن. الى أين؟! الموت والحياة يتصارعان. ما الآتي؟!
يسرع الى منطقة بعيدة. لا يرتاح الى أسفلت الشوارع أحيانا. في المنطقة الأبعد كثيرا يتذكر شقفة الأرض الخضراء كما لو كان يحارب بها كل الصور الرهيبة التي رآها على شاشات الفضائيات في هذه الحرب المرعبة. ما الذي بقي أو ما الذي سيبقى؟! يهز رأسه كما لو كان ينفض منه كل الآلام والعذابات. لا بد أن تخف الأمور تدريجيا. بعد استراحة في مكانه وتأمل قصير تغمر ذهنه بعض ذكريات طفولته الجميلة: الحارة الغربية، الحركة، الجيران الطياب. يزفر أنفاسه مرتاحا، فيما يسترجع المزيد من الذكريات الرائعة المتدفقة على كل عالمه. أنها ذكريات الطفولة الجميلة التي لا تضارع. يتنهد مرددا بينه وبين نفسه: حقا ثمة أشياء رائعة جدا تبعث على الفرح!