مارلين سعاده
في #اليوم_العالمي_للكتاب، 23 نيسان 2024، احتفلَ الشاعر والفنّان أدهم الدمشقي، مع كلبه غودو، بصدور كتابه "حديقة غودو" عن دار نلسن. وهو الكتاب الخامس ضمن سلسلة إصداراته التي توّجها بلوحاتٍ مختارة من مجموعته الفنيّة، "ليكون (وفق تعبيره) كتابًا ومعرضًا في الوقتِ نفسهِ"؛ وهو ما نلاحظه بوضوح عند تصفّحنا الكتاب، وغوصنا في مضمونه. فأدهم الدمشقي، في "حديقة غودو"، يَغمس الريشة في الحرف ويرسم الكلمات، يُطلق يدَه وفكرَه، فتتلاحق الصور بتواصلٍ لا يوقِف جريانَه لا علامات وقف ولا منطقٌ بشريّ. الصور تتخبّط في جمله تخبّطَ الأفكار في رأسه، يستفرغها كما هي؛ فالأيام الصعبة التي ولّدت هذا الغثيان أخرجت كلّ ما في جوفه من قهرٍ ولوعةٍ وحموضةٍ مصحوبة بألمٍ يتردّد صوتُ أنينه في جُمَله المبعثرة تبعثرَ واقعه المرير.
يُزيل حدود خشبة المسرح، ويوسّع أطرَه إذ يفتحه على الجمهور، فيتنقّل الممثّلون بين الخشبة والصالة، حيث الحضور، ليتّحدوا جميعًا في المعاناة. يتحوّل الممثلون إلى لوحاتٍ سورياليّة، لا سيّما حين يظهر من خلف الستارة "ممثّل جديد، نراهُ يوشّمُ جسَدَه العاري بعبارات وكلمات غير واضحة"، كما يتحوّل الكاتب، بطل المسرحيّة، إلى لوحةٍ كأنّها نافذة يفتحها فكره ليهرب من خلالها مغادرًا واقعه المأزوم: "وبْحِس حالي وحيد، متل خيط رفيع مربوط بالسّما، والملاقط عصافير جامدة، ساكتة".
يستعيدُ بِومضةٍ شريطَ الأحداث الأليمة التي عايشها في الوطن، التفجيرات والشهداء والثورات... وتتّسع مساحة المشهد بتفاصيلها بعد انفجار المرفأ... الحياة تستمرّ، ولكنّ فكرَهُ عاجز، يكاد يتوقّف. تعكس بساطةُ الصورة هولَ الفاجعة، وتدفعه بقوّةٍ موجةُ هذيان أو رعب أو ضياع، فيضجّ في رأسه صوت، يقول عنه:
"يزورني في رأسي،
قُمِ انتحر!
أَفتحُ نافذتي.
وأهوي على ورقة".
وهو ما جعله يبحث عن مفرّ من واقعه الصادم والملازم، متمنّيًا إيجاد منفذٍ يهرب منه:
"ليتني أستطيعُ خلعَ رأسي
كما أَخلعُ حذائي".
كذلك تتجلّى عبثيّة وجوده في مناجاته الطويلة التي يرى فيها كلّ ما حوله مواتاً:"الناسُ أسماءٌ وأسماكٌ بلا ذاكرة".
ويحاكي بيروت نائحًا:
"وأنا مثلك، يا بيروت، مَوتي مُؤَجَّلٌ وحياتي مُؤَجَّلَة"...
إنّها الفاجعة التي شهدها أدهم في 4 آب 2020، مثل كثيرين غيره، قذفته مع كلّ ما قذفه الانفجار وبدّده. الصوت الأوّل للانفحار جمّده في مكانه، وهربُ كلبِه "غودو" أعاده إلى وعيه. أدرك هول الكارثة حين علمَ أنّه سيخسر كلبه الذي يحبّه.
استطاع أدهم الدمشقي أن ينقل لنا حجم المأساة بكلّ ما يملكه من معدّات؛ فالريشة كانت مطواعة له حين صوّر لنا هرب غودو الذي تُسابق أقدامه الريح هربًا من الرعب الذي يخلّفه وراءه، والذي يرتسم متجلّيًا في محجر عينه الظاهرة في اللوحة، وفي حدَقَتها، وهو يلقي نظرةً خاطفة ومذعورة ناحية الصوت الذي أثار رعبه؛ كما أتقن الدمشقي رسم الفاجعة بقلمه، حين نقل صرخته وهو ينادي غودو، حيث حوّل القلمَ إلى ريشة، ورسم الحروف بأحجامٍ مختلفة تكبر وتصغر وتتماوج مع تماوج صوت صرخته:
غودوو... غودووووو
يختصر أدهم في "حديقة غودو" معاناتنا جميعًا في هذا الوطن، ووجعنا؛ الموت الملازم لبيروت وناسها، والعيش من قلّة الموت؛ هجرة الشباب وفراق الأحبّة... فكلّ ما حوله يشبه الموت، ويدعو أحيانًا للانتحار - وفق ما يقول – ولكنّه يختار، من جديد، أن يفتح النافذة ويهوي على الورق:
"لَهيك عم بِكتب!
الكتابة بِتْخَلِّي الوَقِت مَا يهاجر..."
نقرأ في كتابه، باختصارٍ شديد، عالمًا فنّيًّا كاملًا، فيه المسرح، وفيه الشعر، فيه الفصحى وفيه المحكيّة، ثمّ يُنهي مدوّنتَه بوقفاتٍ مليئةٍ بالسخرية المُرّة من الواقع، ومن البشر وريائهم، ومن الحياة على الأرض، وهو ما جعله يستخفّ بطقوس البشر وزيفهم... وأوحى له "أنّ الله خلق الكون في ستّة أيّام واستراحَ إلى الأبد!".
أدهم الدمشقي فنّانٌ مرهف الحسّ، يختزن في فكره وقلبه وإحساسه كلَّ أوجاع البشريّة، ومعاناة مواطنيه، ويهرب منها إلى حيث يمكنه أن يحطّم جبروتَها ويكسر شوكتَها، فيُوْدِعُ معاناتَه الريشةَ والقلم، يحاكي بهما الإنسانيّة، مصارعًا من أجل البقاء والعيش بفرح في عالم يهيمن عليه الموت.