الأحد - 08 أيلول 2024
close menu

إعلان

المدينة الأخيرة (روح الروح)

المصدر: "النهار"
الشمس (تعبيرية- "أ ف ب").
الشمس (تعبيرية- "أ ف ب").
A+ A-
سامر أبو هواش
(شاعر من فلسطين)



في خرائبِ هذه المدينةِ الأخيرة
في هذا الليل الذي هو الليل
بجوارِ سريركِ الصغير
الذي مزّقته الوحوش
أقفُ عارياً منّي
ومن كلّ شيء

بهاتين اليدين القليلتين أحملكِ
وأضمّكِ
إلى أبعد ما يمضي إليه قلبي،
وأرفعكِ عالياً في الهواء،
ولكم خفيفة أنتِ الآن يا صغيرتي
ولكم ثقيل هذا الهواءُ
وهذا الجسدُ
الذي كان يوماً لكِ

أحملكِ...
أأحملكِ حقاً؟
أيحملُ رجلٌ روحَهُ
مثلما يحملُ قتيلٌ قميصَه المخضّب بالدم؟
أيولدُ رجلٌ من دموعه
مثلما تولدُ شجرةٌ من أوراقها؟
أيولدُ جدٌّ من حفيدته
مثلما تولدُ ياسمينةٌ من عطرها؟

أحملكِ يا صغيرتي
كأنّي أحملُ دفعةً واحدةً كلَّ الحجارةِ الأرواحِ الدماءِ الصرخاتِ الظلالِ الأيام
الأزمنة الميتة
والصباحات المجهضة
كأنّي أحملُ كلّ الأنهارِ التي جفّتْ
في شفتيكِ
كلّ السهولِ التي تبدّدتْ
في عينيكِ
كلّ الجبالِ التي استحالتْ حفنة غبار
تحت قدميكِ اللتين لن تطآ بعد اليوم
هذه اليابسة اليابسة

عارياً أقفُ بين يديكِ الصغيرتين
غارقاً في نعيمِ لمستكِ الغائبة
مغتسلاً في ضوءِ عينيكِ المغمضتين
كأنني الآن كلّ الموتى
كأنكِ كلّ الولادات

ولا أعرفُ يا صغيرتي
هل أصابكِ في تلك اللحظة ألمٌ
هل لمعَ من أجلكِ ضوءٌ في تلك السماء القاحلة
هل ضمّكِ ملاكٌ رحيمٌ
هل وضعتْ أمّكِ راحتها فوق قلبكِ
كي لا ينفجرَ قلبها

كأنّ كلّ هذا لم يكن
هنيهات قليلة أغيبُ فيها في حليب وجنتيكِ الناصعتين
أذوبُ في تلك البقعة الطريّة عند منتصف جبينكِ،
أذكرُ، حتى أمس قريب،
كان يكفي أن أمسّ تلك البقعة بسبّابتي مسّاً خفيفاً
حتى تغطّي في نوم عميق،
ولكم أخافُ إن لمستها الآن
أن تظلي نائمة إلى الأبد،
كان يكفي، في ذلك الأمس القريب،
أن أقرّبَ أذنيّ من شفتيكِ الصغيرتين
لأسمعَ الينابيعَ البعيدة
تترقرقُ في نَفَسٍ واحد
كان يكفي أن أضعَ أنفاسي بجوارِ أنفاسكِ
لتنهضَ في قلبي
جميعُ العصافيرِ التي خذلتها الدروب
ولم تَعُدْ

في الطريقِ الطويلِ إليكِ
كنتُ أسمعكِ تنادين: "جدّي"
ولم أفهم
فأنتِ لم تتعلّمي النطقَ بعد،
لكنّي سمعتُ
وكان ما سمعتُ صوتكِ
وكان صوتُكِ في كلّ شيء
في الهواء الذبيح
في أنين الاشجار
في عواء الجدران
في الأيدي المبتورة
وفي الأقدام التي تبحث عن خطواتها التائهة تحت الأنقاض

كان صوتُكِ الحلو ينادي
وكنت ألهث في إثره
"جدّي"...
ولم أعرفْ أهذا صوتُكِ
أم أصواتُ جميع الأطفال الضائعين
في متاهات المحرقة
وبين دخانٍ ودخان
كنت أرى أيدياً صغيرة دامية تلوّحُ لي
أم لعلّها تربّتُ روحي
أم لعلّها تناديني
لكي أخرجها من جحيم تلك الغابة السوداء

في الطريقِ الطويلِ إليك
رأيتُ قوافلَ أهلي الهاربين
أهلي السالكين درب الأهوال
وتذكرتُ أبي
كيف حملني أياماً على كتفيه المتعبين
وكيف حملته في قلبي ألف عام
وكلما هاجني شوقٌ إليه
كنت أمسكُ حفنة تراب وألثمها
وأتعلّمُ شيئاً جديداً عن الحبّ والصبر
والألم
وهكذا أيضاً تعلمتُ أن أبتسمَ كلما أعياني الكلام،
لأني أعرف أن أبي
لا يزالُ
حيث تركتُه آخر مرة
وأنه يبتسمُ لي

بانكسار المتعبين
وحنين الغائبين
أحملكِ يا صغيرتي
أضمّكِ إلى صدري
فتضمّينني إلى روحي
تجمعينَ أشلائي المتلاشية
في الأزقة والأرصفة
تجمعينَ دمي المسفوح
على أطرافِ الأسنّة
تجمعينَ كلماتي الآسنة
في الكتبِ المغبرة
تجمعينَ صراخي المبدّد
في صحراءِ الأرض
تلملمينَ بقايا أهلي
من الحفر السوداء
وتعيدينني كاملاً إليّ

ها نحن الآن هنا
طفلان يتيمان وقد غدونا واحداً
في مقتلة
أنا أحملُ روحَك
وأنت تحملينَ جثتي
على مشارفِ هذه المدينة
التي صارتْ حفرة
على مشارفِ هذه الحفرة
التي هي العالم.



الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم