الأحد - 07 تموز 2024

إعلان

في روايته "قناع بلون السماء" الحائزة "جائزة بوكر" 2024... باسم خندقجي يتخلّى عن كلّ الأقنعة لصالح مجدليّته

المصدر: "النهار"
رواية "قناع بلون السماء" الحائزة "جائزة بوكر" 2024.
رواية "قناع بلون السماء" الحائزة "جائزة بوكر" 2024.
A+ A-
مارلين سعاده
 
لا يخفى على قارئ رواية "قناع بلون السماء" للأسير الفلسطيني باسم خندقجي، الصادرة عن دار الآداب، والحائزة جائزة بوكر 2024، اعتماد كاتبها على عدد كبير من المراجع المهمّة لمفكّرين عالميّين مثل فرانتز فانون، وسيجموند بومان، وكاتب ياسين، وإدوارد سعيد، والياس الخوري، وأحلام مستغانمي، وصائب عريقات، ودان براون، وميشيل بيجنت، ونايجل سي غبسون، وأليف شافاق... وهو أمر إنّما يشير إلى ثقافته الواسعة رغم وجوده خلف القضبان!
 
قد تكون هذه الرواية وُلدت في السجن لكنّها لا تنتمي إليه من حيث جيناتُها وملامحها، إذ نراها متحرّرة من الأسر، تفرد جناحَيْها محلّقة في سماء فلسطين متخطّية كلّ الحواجز الطارئة والمصطنعة، نافضة عنها أثر السجن وما يواكبه من عذاب، مغرّدة بحرّيّة في رحاب الوطن المظلِّلة كامل الأراضي الفلسطينيّة.
 
يمتاز خندقجي في سرده بسرعة التنقّل من حدث إلى آخر، معتمدًا أسلوب تعدّد الأصوات وتنوّعها، من السرد إلى الحوار الداخلي، إلى التسجيلات الصوتيّة التي تعكس الصراع القائم في نفس البطل، حيث تتجاذبه شخصيّتان، شخصيّة نور الفلسطيني وشخصيّة أور اليهودي الأشكنازي، متلبّسًا كلًّا منهما بشكل كامل، بحيث تتوزّع الأدوار ما بين "أنا" الكاتب و"أنا" بطل الرواية بشخصيّته المزدوجة، والراوي العليم؛ ما يدخلنا في عمق الصراع الذي يعيشه وهو يسعى لإقناعنا بانتمائه الأكيد إلى كلّ شخصيّة من الشخصيّتين، إلى حدّ اعتقادنا بأنّه يدعمها بالكامل، إلّا أنّه يعود ليحسم البطولة منتصرًا لنور على أور. ولا يلبث أن يخرجنا، على حين غرّة، من حلبة السرد ليدخل في حوار آخر مع صديقه السجين مراد الذي يبثّه، من خارج السجن، شكواه وما يعتريه من صراع ذاتيّ، بطريقةٍ تنعش قراءتنا وتبعدنا عن الملل، وكأنّه يخلق لنا مساحة للتنفّس خارج الحدث بعد أن نكون قد غرقنا فيه، ناقلًا لنا مشاعرَه بشفافية وصدق، بأسلوب منمّق بالمحسّنات اللغويّة والصور البديعة والتشابيه المتجانسة، مؤنسنًا الطبيعة بما يضفيه على المدن والسهول والجبال من إيحاءاتٍ جنسيّة تمنحها النضارة وتبثّ فيها الحياة، كما في قوله: "مجدو، يا أنثى السر العظيم، كم من معركةٍ وقعت في سريرك السهل الذي لم يكن سهلًا على العالمين" (ص 167)، أو قوله: "حتى نابوليون بونابرت عندما مرّ من جانبها (قرية مجدو) أبى إلّا أن يتسلّق نهدها النافر." (ص 168)، ما أضاف إلى الرواية ثقلًا أدبيًّا وسحرًا يشدّ القارئ ويمتعه، لا سيّما أنّه مزج في سرده الواقع بالخيال، المُعاش بالافتراضي، الماضي بالحاضر، مستعينًا بكلّ ما حملته لنا التكنولوجيا الحديثة من علامات وما استنبطته لنا من طرائق لتنظيم تفاصيل حياتنا: "يتمنّى الآن لو أنّ ذاكرته مخزّنة في هاتفه المحمول لكي يحذفها بسهولةٍ ملقيًا بها في سلّة المهملات الافتراضيّة، بالسهولة التكنولوجيّة..." (ص 75).
 
تتضمّن الرواية مقتطفات من أحداث تاريخيّة بارزة قد يكون الكاتب نقلها حرفيًّا أو بتصرّف عن المصادر التي استند إليها، كما في وصفه لكهف البالماخ، أهم معالم الكيبوتس وحرب الاستقلال، مستفيضًا في الحديث عن الانتصارات التي أحرزتها ألمانيا النازيّة، وتحويل الجيش البريطاني، على أثرها، الكيبوتس الى معسكر تدريب لمتطوّعين يهود قاموا بتدريبهم، وشكّلوا في ما بعد نواة الـ"بالماخ" أو القوات الصاعقة الخاصّة بالـ"هاجاناه" (ص 207).

يضعنا خندقجي في روايته أمام العديد من الأسئلة الوجوديّة، كما ينقل لنا بشكل مباشر وأحيانًا صادم، تفاصيل الحياة اليوميّة لبطل الرواية، من دون حرَج أو تحفُّظ، ما يمنح الرواية مصداقيّة وواقعيّة تحتاجها، كما يقوم بمقاربة إنسانيَّة ما بين شعبين طحنتهما رحى الـ"هلوكوست" (بالمعنى المطلق الشامل) أيًّا تكن اليد التي تدير هذه الرحى، مضيئًا على مدى أهمّيّة الهويّة من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى على المفهوم البشري لها، القائم على أُسسٍ عنصريّة: "...الهويّة تدفعني نحو الاتّحاد بها وعدم التنازل عنها. كنت أشعر بتشبّثها... لأُذهَل بالنهاية من أهمّيّة الملامح والوجوه في الميادين والطرقات الصهيونيّة... قيمة الملامح تستمدّ معانيها من العنصريّة والأحقّيّة الإلهية." (ص 70)... كما يتوقّف عند التسميات وأبعادها ساعيًا للتأكيد على ضرورة التمييز بين أن يكون أور "يهوديًّا" أو "صهيونيًّا"، موضحًا الفرق: "لا أعتقد... لدينا مشكلة في كونك يهودياً، بل في كونك صهيونيّاً" (ص 107).
 
إنّ معظم الحوارات المضمرة بين نور وشخصيّة أور التي تلبّسها تلقي الضوء على موضوع التطبيع من خلال عرض نظرة الشعب المحتل المغايرة لنظرة المواطن الفلسطيني المغتصَبة أرضه؛ فهل كان هدف خندقجي الدعوة للتطبيع أم نصرة الإنسانيّة؟! - إنّ ما تنتهي إليه هذه الحوارات من مواقف مشبعة بالعنفوان والحنين إلى وطنٍ مسلوب، ترجّح دفّة نور على دفّة أور، مؤكّدةً أحقّية الشعب الفلسطيني وشرعيّته (ص 201). وهو يضع نفسه مكان القارئ متسائلًا إن كان انصهار مشاعره واندماجه الكلّي بشخصيّة أور شابيرا الصهيوني هو بمثابة تطبيع؛ إلّا أنّ تأثير الوشم الصغير "الآسر" على ذراع سما إسماعيل الحيفاويّة، الذي "يزغرد صمودًا وبقاء: حيفا 1948"، رجّح كفّة انتمائه الفلسطيني، وبرّره ممّا تملّكه من مشاعر الانحياز التي ساورته. (صفحة 201)
 
يولَد لدينا تساؤلٌ آخر عند إيراده موضوع المثليّة الذي يشغل عالمنا اليوم؛ فهل تطرّق إليها بهدف التسويق لها، أم ليضفي على روايته الطابع العصري والواقعيّة المطلوبة؟ وهل يُعتبر موضوع المثليّة أمرًا طارئًا في مجتمعاتنا أم أنّه كان حاضرًا على مدى العصور ولكنّ عالمنا المفتوح والذي حوّل الأرض إلى شبه قرية واحدة ساهم في تأجيج ناره وطغيانها؟
 
كذلك اختياره لشخصيّة مريم المجدليّة وجعلها محور روايته انطلاقًا من النصوص والأناجيل الغنوصيّة، وتركيزه على ما أسماه "الإنسان الكامل الناتج عن الزواج الصوفي"، يترك العديد من التساؤلات، لا سيّما أنّه يذكر من خلاله ما يبدو تأييدًا للمثليّة: "كلّ امرأة تحوّل نفسها إلى رجل ستدخل ملكوت السماء"، وذلك استنادًا إلى ما نقله - كما أشار - عن إنجيل توما السرّي، مع ما تبعه من تبرير بالقول: "إنّ الذَّكَر المقصود في هذه الحالة هو النوع النوراني الواحد والإنسان الكامل" (ص 135)؛ إضافةً إلى ما ذكره عن خلافات وقعت بينها وبين بطرس الرسول على رئاسة الكنيسة. قد تكون المجدليّة مجرّد وسيلة لإيصال أفكار محدّدة وتسليط الضوء مجدّدًا على واقع شعب مناضل باتت الشهادة خبزه اليوميّ، ولم يقصد بها - كما أوهمَنا - الردّ على "شيفرة دافنتشي" لـ"دان براون".

لقد سخّر خندقجي لروايته كلَّ ما يشغل الناس في عالمنا المعاصر، ليوصل للعالم أجمع صورةً واضحة عن معاناة شعبه، معلنًا في نهايتها تخلّيه عن كلّ الأقنعة، إلّا قناع "مجدليّته" التي تمثّل أرضه وسماءها، مطلقًا بذلك صفّارته ليعلن نهاية المعركة لصالحها!

 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم