ابرهيم حنا- ضاهر
للحروب ديناميكياتها الخاصة التي لا تقتصر على الأساسيات.
لقد واجه عبر التاريخ عدد من كبار القادة السياسيين، من الإسكندر إلى نابليون، هذه الحقيقة المكلفة. فمن الأساسيات التي تؤثر في مجرى الحروب عوامل عدة ، كثير منها لا يمكن التنبؤ به. تبقى الإستراتيجيات والإمكانات المستخدمة أساس كل المعارك، على الرغم من أنه لا يمكن إغفال دور اللوجستيات وأهمية الدعم الذي يمكن الاعتماد عليه. فالدعم الداخلي ينبع من التماسك الداخلي والوحدة الوطنية المساندة للحرب، وهذه تشكل البيئة الحاضنة التي لا غنى عنها في أي مغامرة، أما الدعم الخارجي فهو عصب المعارك في عالمنا هذا في ظل موازين القوة القائمة، من هنا تتضح أهمية الرأي العام الدولي أو بعض من مكوناته.
تشكل الأحوال الجوية مثلًا، والإستراتيجيات الخفية للعدو وإمكاناته غير المتوقعة، أو شراسة المعارك أو طول مدتها أساس عنصر المفاجأة. بالطبع يحاول الأفرقاء التغلب على ذلك بالوسائل التكنولوجية والمعلومات الاستخباراتية، أو باستخدام المعلومات والتلاعب بها. ولكن كيف يمكن التنبؤ بما هو مفاجئ، سواء على الأرض أو في الرأي العام أو في الدعم الدولي؟ العديد من الحروب طالت أو تحولت إلى مأساة، على عكس ما أوحت به موازين القوى، بسبب أحداث أو وقائع شكلت نقطة تحول في مجرى الصراع.
ينصبّ اهتمامنا على دراسة الانحراف الذي يحدث في لحظة ما على عكس كل مظاهر الانتصار والسيطرة العسكرية، والذي يحدد نتيجة الصراع. لذا، يبدو مثال الهجوم الفيتنامي في عيد التيت ذا دلالة كبرى لا بد من العودة إليها.
عام 1968، شنّ الفيتناميون الشماليون مع الفيتكونغ في جنوب كوريا الهجوم الشهير المعروف باسم هجوم التات الفيتنامي. يشكّل التات عيداً تقليديًا يمثل فترة هدنة تُحترم عادة من الجميع. توافق موعد العيد في هذا العام مع فترة رأس السنة الجديدة.
كان التحالف الغربي بقيادة الأميركيين يدعم الحكومة الكورية الجنوبية التي كانت تواجه القوات الشيوعية من الشمال وثوار الڤيتكونغ في الجنوب.
استغل هذا الهجوم عنصر المفاجأة من خلال توقيته وحجم الوسائل المستخدمة ونطاق الهجمات، فكان هدف الثوار أولا إظهار هشاشة العدو القوي وضرب معنوياته، ومن ناحية أخرى إبراز استمرار قوة الشيوعيين القتالية. كانت النتائج على الأرض كارثية، والخسائر كبيرة من دون أي تقدم ملحوظ. من الناحية المنطقية، كان ينبغي أن يستفيد التحالف الغربي من هذه النجاحات لدعم جهود الحرب الأميركية وتعزيز فريق جونسون. لكن ما حدث هو العكس تماماً، إذ أمّن النقل الإعلامي لحجم المعارك رؤية أكبر لوحشية القتال، فأظهر من خلال الجامعات الأميركية، رأياً عامًا قوياً تزايد حتى أصبح لا يمكن تجاهله وشكّل حقًا بداية نهاية حرب فيتنام. بالطريقة نفسها، من الواضح أن هجمات 7 أكتوبر قد تشكل تحولاً في الصراع الفلسطيني. لا بد هنا من الإشارة الى الطريقة عينها في افتعال الحدث عبر اللجوء الى عنصر المفاجاة خلال فترة أعياد دينية، وعبر ضراوة القتال غير المعهودة في حين كان الهدف ضرب معنويات العدو وإحياء القضية المركزية والتأكيد أن الحرب لم تنته، وبالتالي ضرب كل محاولات تجاوز القضية والمضي في التطبيع.
كان الوقع تمامًا كما في حرب فيتنام، إذ سمحت وسائل التواصل الاجتماعي، بالرغم من الحصار الإعلامي الذي فرضته إسرائيل، بأن تصل الى الرأي العام صورة الرد الوحشي اللاإنساني. فبالرغم من الخسائر الفادحة التي تكبدها الشعب الفلسطيني، ساهمت الصورة في انقلاب جذري في الرأي العام الدولي وخصوصا الجامعي الأميركي الذي استمر صعدًا حتى أصبح واضحًا أن هذه الهجمات ستشكل تمامًا على غرار الهجوم الفيتنامي نقطة تحول في هذا الصراع في مجمع المجالات، بدءًا بالدعم الغربي اللامتناهي للكيان، مرورًا بالمقاربة الجديدة للقضية الفلسطينية والصراع المستمر منذ أكثر من ٧٥ عامًا.
حبذا لو يمكن أن تنبثق من هذه المآسي طريق للسلام في عالم أفضل…