يشكل ملف الاستثمار مدخلاً جديداً للاتحاد الأوروبي لبناء شراكة استراتيجية جديدة مع الجزائر، في ظل الدعوة التي أطلقها الاتحاد إلى الحوار معها لتسوية خلافات تجارية نشبت بينهما بسبب معارضته الترخيص للاستيراد منها، والسماح لمصنعي السيارات في الجزائر بصناعة قطع غيار محلياً، وفرض سقف على المشاركة الأجنبية في الشركات المستوردة للمنتجات إليها.
وأكد رئيس الوفد الأوروبي الذي زار الجزائر أخيراً توماس إيكرت وجود "قناعة أوروبية بضرورة الفصل بين التبادلات التجارية والاستثمار"، وقال في مقابلة تلفزيونية قبل أسبوع إنه "آن الأوان من أجل الفصل بين التبادل الحر والاستثمار".
امتعاض أوروبي
ورأى إيكرت أنه "ينبغي التفكير في اتفاق خاص يضبط شروط الاستثمار وكيفيته ويوفر أيضاً الحماية للمستثمرين، والمقترح حالياً على الطاولة ونحن بانتظار معرفة ما إذا ستقبل به الجزائر".
وأقر الدبلوماسي الأوروبي بوجود "مجموعة من العراقيل التي تعترض اتفاق منطقة التجارة الحرة بين الجزائر والاتحاد الأوروبي"، وقال إن "هناك قيوداً مفروضة على الولوج إلى الأسواق بسبب نظام تراخيص الاستيراد الذي أقرته الوكالة الوطنية لترقية التجارة الخارجية، وهو النظام الذي لا يتناسب إطلاقاً مع اتفاق الشراكة بين الطرفين".
وتزامناً مع تصريحات إيكرت، أكدت المفوضية الأوروبية أنها بادرت إلى "تفعيل إجراءات لتسوية المنازعات مع الجزائر"، معترضة على قرارات عدة نفذتها السلطات الجزائرية منذ عام 2021 تهدف إلى تنظيم الواردات وتحفيز الإنتاج المحلي، في خطوة جديدة يرى مراقبون أنها مؤشر إلى محاولة بروكسل تحريك المياه الراكدة للتجارة مع الجزائر.
وتشمل الإجراءات الجزائرية التي وصفها الاتحاد الأوروبي بأنها "تقييدية"، نظام تراخيص الاستيراد وحوافز لاستخدام المدخلات المحلية في قطاع السيارات، وتنظيم المشاركة الأجنبية في الشركات المستوردة.
محاولة للتدارك
وتطرح هذه التحركات عدداً من الأسئلة بشأن مدى تجاوب الجزائر مع المقترح الأوروبي الجديد، وعما إذا كانت اليوم في مركز قوة من أجل الدفاع عن مصالحها الاستراتيجية، وهل ستخوض فعلاً بروكسل معركة التحكيم الدولي بشأن اتهامات لها بـ"وقف صادراتها وتعطيل مشاريعها واستثماراتها على أرض الجزائر".
ويحاول الاتحاد الأوروبي التعامل بفطنة من أجل استرجاع مكانته في السوق الجزائرية، لا سيما في ظل المنافسة الموجودة، وفي هذا المضمار يلفت المحلل السياسي والباحث الاجتماعي أحسن خلاص في حديث لـ"النهار العربي" إلى استراتيجية الأوروبيين القاضية بـ"فصل الاستثمار عن التبادلات التجارية ووضع اتفاق خاص به من أجل الحفاظ على مصالحهم الاقتصادية بعد الخسارة التي مُنيوا بها بسبب الإجراءات المتخذة جزائرياً، كنظام تراخيص الاستيراد وتبني الجزائر سياسة أوسع تهدف إلى تنويع الاقتصاد وتقليل اعتماده على المحروقات وتعزيز التصنيع المحلي".
من جهة أخرى، يمكن اعتبار تلويح بروكسل بطلب تحكيم دولي محاولة للضغط على الجزائر بهدف تحريك المياه الراكدة للتجارة معها، وهي الشريك الذي لا غنى عنه في المغرب العربي وأفريقيا، فكيف ستتعامل مع الوضع؟ وهل باستطاعة الاتحاد الأوروبي الإضرار بمصالح الجزائر واللجوء فعلاً إلى التحكيم الدولي؟
أوراق الجزائر الرابحة
يقول الأستاذ في كلية العلوم الاقتصادية والتجارية وعلوم التسيير – جامعة الأغواط البروفسور رمضاني لعلا إن "موقف الجزائر يمكن تحديده وفقاً لعوامل عدة مؤثرة، فاتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي وقعت في ظروف استثنائية، إذ كانت البلاد في تلك المرحلة في موقع ضعف ورجحت الكفة لمصلحة الاتحاد الأوروبي، بينما تكبدت الخزينة العمومية خسائر بمليارات الدولارات طيلة الـ20 سنة الماضية".
وقبل حديثه عن العوامل المؤثرة والمتحكمة في المفاوضات، يلفت لعلا في حديث لـ"النهار العربي" إلى أن "تحرك الاتحاد الأوروبي في هذا التوقيت بالذات لا يخلو إطلاقاً من إسقاطات سياسية، فقد خص بيان المفوضية الأوروبية بالذكر عام 2021 وهي الفترة التي تولى فيها عبد المجيد تبون رسمياً مهماته رئيساً للجمهورية، وما تبعها من تحولات اجتماعية واقتصادية".
وهل الجزائر في موقع قوة للدفاع عن مصالحها الاستراتيجية؟
يجيب لعلا بأن "الظروف المحيطة بطاولة الحوار اليوم تختلف عن سابقاتها، فالجزائر اعتمدت في السنوات الخمس الأخيرة على تنويع الشركاء الاقتصاديين كالصين التي تعتبر أول مموّن للبلاد منذ عام 2013 ومن بين أهم شركائها التجاريين، إذ بلغت المبادلات التجارية البينية في عام 2022 ما قيمته 7.42 مليارات دولار، وهناك أيضاً الولايات المتحدة التي احتلت عام 2021 المرتبة السادسة بترتيب الشركاء الاقتصاديين للبلاد وألمانيا وإيطاليا التي وقعت معها العديد من الاتفاقيات الاستراتيجية، وآخرها اتفاق استراتيجي تجسده شراكة جزائرية - إيطالية لإنجاز مشروع ضخم في محافظة تيميمون باسم مؤسسة ماتيي أفريقيا يمتد من 2024 إلى 2028 لإنتاج الحبوب والبقوليات والصناعات الغذائية".
ومن بين المؤشرات الأخرى التي تدعم موقف الجزائر في المفاوضات المرتقبة، يشير الخبير الاقتصادي إلى "مكانتها الثانية في قائمة كبار مصدري الغاز إلى أوروبا عبر الأنابيب بعد النرويج التي تصدرت القائمة وقبل ثلاث دول أخرى منها روسيا، ومن المرجح، بحسب التقرير السنوي الجديد لمنتدى البلدان المصدر للغاز، أن تحافظ الجزائر على مكانتها كممون مهم للغاز الطبيعي.