كادت هيئة الأوقاف في العاصمة الليبية تتسبب في إشعال فتنة مذهبية على إثر هجوم وصل إلى حد التكفير شنته ضد أتباع المذهب الإباضي، ما شكل إحراجاً لمعسكر الغرب الليبي وسط رفض واسع لمحاولات تفتيت مجتمع يسوده التعايش.
ويغلب المذهب المالكي السني على سكان ليبيا، مع ذلك هناك عشرات الآلاف من أتباع المذهب الإباضي، خصوصاً في البلدات المتاخمة للحدود الليبية مع تونس أقصى شمال غربي البلاد.
شكوى من التحريض
والمذهب الإباضي أحد أقدم المذاهب الإسلامية، وقد ظهر في القرن الأول الهجري في مدينة البصرة العراقية، وينتمي كثر من أمازيغ ليبيا إلى هذا المذهب، ويؤكد ناشطون أن كل إباضي هو أمازيغي، لكن ليس كل أمازيغي إباضياً. وقد ظلت هذه الأقلية تمارس شعائرها بحرية على مدى قرون، لكنها بدأت تشكو خلال السنوات الأخيرة من التحريض ضدها من التيارات السلفية المتشددة التي بدأت تتوغل في المجتمع منذ إطاحة نظام معمر القذافي. وهو ما كانت قد حذرت منه بعض المنظمات الحقوقية المحلية والدولية، على رأسها "هيومن رايتس ووتش" التي لفتت في تقارير عدة إلى أن "الهجمات ضد الأقليات الدينية في ليبيا تمر من دون عقاب منذ أحداث شباط (فبراير) عام 2011".
وعلى إثر هجوم شنه تابعون لهيئة الأوقاف التي يقودها المفتي المثير للجدل الصادق الغرياني، ونُشر على موقع الهيئة الرسمي، ضد أتباع هذه الأقلية وصل إلى حد تكفيرهم والتحريض على قتلهم، خرجت تظاهرات في المدن التي يقطنها أمازيغ في منطقة جبل نفوسة (غرب ليبيا) دانت تحريض هيئة الأوقاف التي نعتها المحتجون بـ"الإرهابية"، وأقدموا على إغلاق فروعها في مدنهم. كما لوّحوا بتدويل قضيتهم.
رد المجلس الأعلى للإباضية
وقال المجلس الأعلى للإباضية في ليبيا إنه تابع ما ادعته هيئة الأوقاف "بياناً لعقيدتها المنحرفة بعدم قبول شهادة أهل البدع والأهواء، بزعمها، وزجت فيه أهل الحق من الإباضية، ورمتهم بتهم ترتج لهولها القلوب، كيف لا وهي تمهيد لاستباحة الدماء وزهق الأرواح، وإيقاظ للفتن التي تعصف بالأوطان". واتهم المجلس في بيانه قيادات الهيئة بـ"إشعال الفتن بين الناس بنبش التاريخ واستخراج أقوال وفتاوى شاذة وإلقائها بين المسلمين، لتزيد هوة خلافهم اتساعاً، ويتطاير غبار المعركة بينهم تكفيراً وتبديعاً وتفسيقاً". وأضاف أنه "نظراً إلى ما يمثله الفعل المرتكب من قبل القائمين على الهيئة من عمل إجرامي وفقاً لما تقرره أحكام قانون العقوبات الليبي"، فإنه يحمّل المسؤولية القانونية للمجلس الأعلى للدولة وحكومة الوحدة الوطنية عن "السلوك الإجرامي الصادر عن تابعيهم من القائمين على الهيئة العامة للأوقاف المغتصبة، وضرورة توليهما اتخاذ الإجراءات العاجلة لحل الهيئة، وإعادة بنائها على النحو الذي يكفل احترام الإعلان الدستوري وتمثيل الهيئة لكل المذاهب الإسلامية الأصيلة في المجتمع الليبي".
دعاوى محلية ودولية
كذلك أعلن المجلس اعتزامه تحريك الدعاوى الجنائية أمام القضاء الليبي والدولي ضد مرتكبي تلك الأفعال الإجرامية، المتمثلة في الإساءة والتحريض والازدراء للمذهب الإباضي وأتباعه داخل الهيئة أو خارجها حفاظاً على السلم الاجتماعي، ووأد الفتن والنعرات الطائفية، ومقاطعة الهيئة العامة للأوقاف "المغتصبة"، في المناطق ذات الوجود الإباضي، واستحداث هيئة مستقلة للأوقاف الإباضية تتبع رئاسة الوزراء مباشرةً.
ودخل رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة على الخط للتخفيف من حدة النزاع، وفي رسالة وجهها إلى رئيس هيئة الأوقاف انحاز فيها الدبيبة إلى الإباضيين، مشدداً على أن ما ورد من الهيئة "أمر مثير للفتنة بين الليبيين، ومخالف لاختصاصاتها"، محذراً الهيئة من تجاوز اختصاصاتها المحددة. كما طالب بـ"اتخاذ الإجراءات الرادعة والعاجلة في حق من صدرت عنه تلك التصرفات من الإدارات المعنية"، متوعداً بـ"اتخاذ إجراءات رادعة وحاسمة في حال تكرارها".
وعلى الخط نفسه مضى المجلس الأعلى للدولة عقب اجتماع له نهاية الأسبوع الماضي برئاسة رئيسه محمد تكالة، إذ شدد في بيان على رفضه ما صدر عن الهيئة "في مسائل ليست من اختصاصها، تتنافى مع الحكمة السياسية الشرعية، لا سيما في هذه الظروف التي تمر بها البلاد والتي تدعو فيها الحاجة إلى اللحمة الوطنية ووأد الفتنة ورأب الصدع"، داعياً الجميع إلى "إخماد كل فتنة تهدد السلم الاجتماعي، والحفاظ على التعايش الذي قام عليه الوطن منذ قرون".
كذلك أعلن المجلس "تشكيل لجنة من أعضائه المتخصصين في العلوم الشرعية للتواصل مع المؤسسات المعنية لحثها على تبني خطاب ديني وسطي معتدل، والابتعاد عن إثارة قضايا تثير الفتن بين أبناء المجتمع الليبي".
وهاجم رئيس حزب "ليبيا الأمة" فتحي خليفة، هيئة أوقاف الغرياني التي "يسيطر عليها المتشددون وتحمل أجندات أيديولوجية وتحصل على دعم خارجي وتحاول أن تفتت النسيج الاجتماعي الليبي"، لافتاً لـ"النهار العربي" إلى أن "التيار السلفي الذي يُسيطر على هيئة الأوقاف دخل في أزمات مع مذاهب وطوائف عدة في ليبيا، وهو لا يستند إلى أساس ديني صلب لكنه يحمل أجندة سياسية مشبوهة يحاول تنفيذها، وكان قد دخل على خط صراعات مسلحة عدة لدعم طرف ضد آخر ... والأزمة مع الإباضيين ليست الأولى ولن تكون الأخيرة".
الغرياني.
وحذر خليفة من "توغل هذا التيار المتشدد في ليبيا خلال العقد الأخير على المستوى السياسي والإداري، ومن ثمّ يحاول التدخل في حياة الناس وتقرير مصائرهم وعقائدهم، ولا بد من مواجهتهم".
وكان تحالف أحزاب وتيارات سياسية يُسمى "الائتلاف الوطني لأبناء ليبيا" قد استنكر ما صدر عن هيئة الأوقاف وتكفير معتنقي المذهب الإباضي، محذراً من "إثارة للفتنة بين أبناء الشعب الليبي الذي تعايش سلمياً طيلة قرون كتفاً بكتف في كنف الشريعة الإسلامية السمحاء". كما حض على "ضبط النفس ودرء الفتنة بين أبناء الشعب الليبي كافة وعدم استغلال الدين الإسلامي لمآرب سياسية خاصة لجهات معينة".