باريس - شارل سابا
يعتبر الباحث في جامعة ستانفورد الأميركية ستيفن كوتكن في مقالته "المستقبلات الخمسة لروسيا" المنشورة في عدد أيار (مايو) وحزيران (يونيو) 2024 من مجلّة "فورين أفيرز"، أن فرنسا وروسيا تتشابهان في كونهما "تمتلكان تقاليد ملكية تستمرّ في شكل من الأشكال في الحكم"، جنباً إلى جنب مع "تقاليد ثورية مضطربة تعيش في المؤسسات والذكريات كمصدر إلهام وإنذار" على حدّ سواء، إضافة إلى تاريخ إمبريالي خارج حدود الكيان التاريخي.
في هذه المقالة التي يدعو فيها الكاتب روسيا إلى حذو حذو فرنسا بتخلّيها عن "توسّعيتها" و"دمقرطة" نظامها، يستعيد من كتاب "النظام القديم والثورة" الذي ألّفه الفيلسوف السياسي الفرنسي ألكسي دو توكفيل عام 1856، اعتباره أن "جهود الثوار الفرنسيين للقطع مع الماضي أدّت من دون قصد إلى تعزيز هياكل الحكم".
ويشرح كوتكن أن في كلتا الدولتين، ألغى الثوار الملكية ليعودوا ويرونها مجدداً في هيئة ملك وإمبراطور ورئيس، فضلاً عن استمرار الإرث الملكي مادّياً في القصور والتماثيل، وفي الحكم المركزي الذي يحتكر قدراً كبيراً من السلطة والثروة.
قد تكون هذه المشتركات التاريخية من الأسباب التي تجعل العلاقة بين الدولتين "علاقة حب وبغض" دائمة، ومرتبطة إلى حدّ كبير بالعلاقة الشخصيّة بين حاكمي البلدين. فمن اللافت في مكان أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كان آخر الزعماء الغربيين الذين احتفظوا بخط اتصال مباشر مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبيل الحرب الأوكرانية، وبات الأشدّ مهاجمةّ له أخيراً، وصولاً إلى حدّ حديثه عن إرسال قوات فرنسية لمواجهة الجيش الروسي.
قد يسأل سائل ما علاقة ذلك بالانتخابات الفرنسية؟
في الواقع، إنه وإلى جانب المواضيع الداخليّة من قدرة شرائية وهجرة واتهام بالعنصرية ومعاداة الساميّة، كانت روسيا الموضوع الخارجي الأبرز المستعمل في الحملة الانتخابية الأوروبية في فرنسا، وصولاً إلى الانتخابات التشريعية الاستثنائية عقب حلّ البرلمان.
فقد حلّ الصراع مع روسيا في أولويّة الخطاب السياسي للرئيس الفرنسي منذ بداية السنة الجارية، مترافقاً مع عدم توفير مناسبة لإحراج حزبي "التجمّع الوطني" اليميني و"فرنسا الأبيّة" اليساري الراديكاليين من باب علاقتهما بروسيا، على شاكلة الانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة عام 2016 بين دونالد ترامب وهيلاري كلينتون.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، اتُّهم حزب "التجمّع الوطني" بتنفيذ أجندة روسية لإضعاف الاتحاد الأوروبي والناتو، كما أشار رئيس الجمهورية بإصبعه مباشرة إلى روسيا في الحديث عن قيادة حملة تضليل إعلاميّة للنيل منه شخصياً. كذلك، ضجّت الأوساط الفرنسيّة بأخبار عن وقوف روسيا خلف حملات معاداة للسامية قام بها مناصرون لـ"فرنسا الأبيّة" في سبيل تأليب الناخبين العرب والمسلمين على الحكومة والأكثرية. هذا من دون الإشارة إلى الحديث عن دور روسي في دفع المهاجرين غير الشرعيين من بيلاروسيا وتونس إلى دول الاتحاد الأوروبي، وعن أيدٍ روسيّة في تحريك تظاهرات المزارعين في دول أوروبيّة عدة أبرزها فرنسا وألمانيا.
بغضّ النظر عمّا إذا كانت هذه الأخبار مضخّمة لغايات انتخابيّة، وما إذا كانت لدى روسيا القدرة على لعب كلّ هذه الأدوار بهذه الفاعليّة، فإن الأكيد أن التوتّر الجيوسياسي غير المسبوق مع روسيا ـ والصين ـ هو السبب الرئيسي في مشكلة انهيار القدرة الشرائية، وازدياد الهجرة. إذ إن الاكتفاء بالنظر إلى النتائج الدوليّة المباشرة لهذا التوتّر، من دون انعكاساته السياسية الداخليّة لا يفي الصورة حقّها. على سبيل المثال، رافق انقطاع أنابيب الغاز والنفط الروسي انهيار القدرة الشرائيّة للناخب الفرنسي وارتفاع أسعار الكهرباء والمحروقات، ورافق الصراع في البحر الأسود أيضاً تضخّم عالمي زاد من الهجرة الاقتصاديّة من دول الجنوب، كما زادها اهتزاز أمن منطقة الساحل والقرن الأفريقيين.
من جهتهما، لا يخفي الحزبان الفرنسيّان المذكوران، أي "التجمّع الوطني" برئاسة مارين لوبن و"فرنسا الأبيّة" برئاسة جان لوك ميلانشون، رفضهما تخطّي خطوطاً تعتبرها موسكو حمراء في دعم أوكرانيا، وقد يكون موقفهما الضمني أكثر مراعاة من هذا لروسيا.
تأثير الأكثريّة على العلاقات الروسيّة الفرنسيّة
بعيداً عن الخطابات، تشير الوقائع الأخيرة عقب الانسحابات المنسّقة بين "الجبهة الشعبية الجديدة" اليسارية وتحالف "معاً" الوسطي الحليف للرئيس ماكرون، عشيّة الدورة الثانية، أن طريق الأكثرية المطلقة لـ"التجمّع الوطني" باتت دونها صعوبات جمّة، رغم أنّها ليست مستحيلة. وعليه باتت التوقّعات الفعليّة لـ"التجمّع الوطني" تنحصر بين أكثرية نسبيّة ضعيفة (من 220 إلى 240 نائباً من أصل 577) وأكثريّة نسبيّة مريحة (تصل إلى حدود الـ270 نائباً). في الحالة الأولى، يُرجّح تشكيل حكومة تكنوقراط مدعومة من "الجبهة الشعبية الجديدة" وتحالف "معاً" الحليف للرئيس، فيما لن يكون في الوسع تخطّي وزن "التجمّع الوطني" في تأليف الحكومة في الحالة الثانية. وعليه، سيبقى الرئيس متحكّماً كلّياً في السياسة الخارجية والدفاعيّة، وفق ما تمليه التطبيقات المتعارف عليها للنصوص الدستورية للجمهورية الخامسة. أمّا إذا لم تصدق التوقعات، وحقّق "التجمّع الوطني" أكثريّة مطلقة، فتشهد "الصلاحيّات السياديّة" للرئيس الفرنسي في مسألة الخارجيّة والدفاع كباشاً لم تعرف مثيلاً له، وخصوصاً أن مارين لوبن صرّحت قبل ثلاثة أيّام من الدورة الأولى عن تفسيرها لقيادة الرئيس للقوات المسلّحة على أنّها شرفيّة، بمعنى أنّها لا تتمتّع بأي صفة تنفيذيّة.
ويبقى أنّه في كلّ التوقّعات، من الممكن كثيراً أن يفوق نواب "التجمّع الوطني" و"فرنسا الأبيّة" نصف عدد مقاعد الجمعيّة الوطنيّة، فهل يترجم ذلك بتقاطعات موضوعيّة لإعاقة السياسات الخارجيّة والدفاعيّة لرئيس الجمهوريّة والسلطة التنفيذيّة؟ وأيّ دور يبقى للدولة العميقة في فرنسا للحسم في أوضاع كهذه؟