"إلى الذين يتحدّثون مطوّلاً عن مشاكل الديموقراطية الليبيرالية عوضاً عن وعودها، أقول ‘دعوهم يذهبون إلى أوكرانيا‘. شعب أوكرانيا يظهر لنا أنّ تلك القيم – (قيمَ) مجتمع منفتح وعالَم حر – يمكن أن تستحق النضال لأجلها وحتى الموت لأجلها. السؤال بالنسبة إلينا جميعاً، ما الذي سنفعله لمساعدتهم؟"
هذا السؤال طرحه الإعلامي والكاتب السياسي فريد زكريا في مقاله الذي نشرته صحيفة "واشنطن بوست". لكنّ الجواب عليه قد يكون، وفقاً لما بدا خلال اليومين الماضيين: "ليس بالشيء الكثير". هذا على الأقل ما يعتقده قسم من الشعب الأوكراني بما فيه رئيسه فولوديمير زيلينسكي الذي تحدّث مراراً عن أنّ الغرب خذل بلاده. وقال أمس الجمعة إنّ العالم ترك أوكرانيا "وحدها".
فرض الغرب عقوبات قاسية على روسيا، لكنْ هنالك شكوك حتى داخل إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن بفاعليتها في ردع الغزو أو وقفه. ويبدو أنّ الولايات المتحدة عرضت على زيلينسكي إجلاءه لكنّه رفض ذلك. نقلت وكالة "أسوشييتد برس" عن مسؤول استخباري أميركي بارز اطّلع على المحادثات إشارته إلى أنّ زيلينسكي قال: "القتال دائر هنا. أحتاج إلى الذخيرة، لا إلى رحلة".
يظهر أنّ الغرب لا يقدّم ما يكفي من الدعم لقلب موازين القوى. إذا كان ذلك صحيحاً، أقلّه بالنسبة إلى تحرّكات بروكسل وواشنطن في اليومين الأوّلين من الحرب، فربّما حان الوقت لطرح سؤال صعب آخر: هل بات يتوجّب على أوكرانيا إلقاء السلاح بما أنّ مصير المعركة محسوم مهما طالت مدّتها؟
أحد مراقبي شؤون النزاعات طرح دعوة كهذه ووجّهها في تغريدة له إلى القوى الغربيّة. أستاذ أبحاث السلام والنزاع في جامعة أوبسالا الأسوجية أشوك سوَين كتب أمس: "حين يفشل الغرب في الدفاع عن أوكرانيا، فسيتوجب عليه تشجيع أوكرانيا على الحديث إلى روسيا والتفاوض على اتّفاق. إنّ مواصلة الحرب لن تنتج سوى المزيد من الأرواح الأوكرانية".
إشكاليّات هذه الدعوة
قد يحتّم المنظوران الإنسانيّ والواقعيّ طرح هذه الفرضيّة. مع ذلك، لا تخلو الأخيرة من مشاكل عدّة أقلّه من ناحية السياسة الواقعيّة. بداية، دعا زيلينسكي مرّات عدّة، قبل وبعد الاجتياح، إلى الجلوس مع الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين للحوار حول الملفّات الخلافية. آخر هذه الدعوات وُجّهت يوم الجمعة: "أودّ أن أخاطب رئيس الاتحاد الروسي مرّة أخرى. هنالك قتال في جميع أنحاء أوكرانيا الآن. دعنا نجلس إلى طاولة المفاوضات لوقف قتل الناس". وأعرب عن استعداده مناقشة "الوضع المحايد" لأوكرانيا.
وذكرت وكالة "ريا نوفوستي" أنّ موسكو مستعدّة لإرسال ممثّلين إلى العاصمة البيلاروسيّة للتحدّث مع كييف. ومع أنّ الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف رحّب بالمقترح "الإيجابيّ" لكييف، قال في الوقت نفسه إنّ "إلغاء النازية" و"نزع السلاح" يجب أن يكونا مكوّنين "لا ينفصلان" عن حياد أوكرانيا. وأعلن المستشار الرئاسيّ الأوكرانيّ أوليسكي أريستوفيتش في حديث لشبكة "سي أن أن" يوم الجمعة إنّ كييف "تدرس مقترح" عقد محادثات في مينسك. لكنّ بيسكوف أوضح أنّ الجانب الأوكرانيّ ردّ على اقتراح التباحث في مينسك بالإشارة إلى الأوكرانيّين يريدون "الذهاب إلى فرصوفيا، ثمّ قطعوا الاتصال، أخذوا استراحة". وقال اليوم إنّ "الرئيس لروسيّ أمر أمس بوقف تقدّم الوقات الرئيسية متوقعاً بدء مفاوضات" لكنّ أوكرانيا فوّتت تلك الفرصة. ردّت كييف بأنّها لم ترفض الحوار لكنّ موسكو طالبات بـ"شروط تفاوضية غير قابلة للتنفيذ".
من الواضح أنّ الجانبين متردّدان في الإقدام على الحوار "الآن". قد لا يقبل بوتين اليوم بمجرّد مناقشة حياد أوكرانيا – إذا كان هذا مطلبه أساساً. فالحياد الأوكرانيّ يعني أنّ كييف ليست واقعة تماماً في المدار الروسيّ. لو كان بوتين سيقبل "بالحياد" قبل بدء الغزو، فمن غير المرجّح أن يكتفي به بعد إطلاق الهجوم.
كذلك، إنّ ذهاب أوكرانيا الآن إلى المفاوضات يعني المزيد من التنازلات، إن لم يكن يعني استسلاماً كاملاً. لهذا السبب، من المرجّح أن تنتظر كييف بعض التطوّرات الميدانيّة (كطول الحرب وبطء التقدّم الروسيّ) لمراكمة بعض النفوذ قبل الذهاب إلى طاولة الحوار. وهذا الرهان ليس منفصلاً عن الواقع تماماً، بالاستناد إلى التطوّرات الأخيرة التي حدثت اليوم.
فدول الجناح الشرقيّ لحلف شمال الأطلسيّ لا تزال ترسل أسلحة دفاعيّة إلى أوكرانيا ممّا يجعل المعركة حول كييف أكثر استنزافاً للجيش الروسيّ. ووافقت إدارة بايدن في الساعات القليلة الماضية على إرسال مساعدات عسكرية بقيمة 350 مليون دولار إلى أوكرانيا. وقرّرت هولندا إرسال 200 صاروخ "ستيغنر" أرض-جو إلى أوكرانيا. إنّ قدرات الجيش الأوكرانيّ في عرقلة الهجوم الروسيّ تعني أنّ الغرب سيكون أكثر استعداداً في مواصلة دعم كييف لمواجهة موسكو. أفلا يعني ذلك أنّ صمود أوكرانيا على أرض الميدان لفترة من الزمن سيقيها من الذهاب إلى طاولة التفاوض بشروط موسكو لو قرّرت فعل ذلك حالياً؟
ما لن "تتردّد" موسكو تجاهه
حملت "النهار" بعضاً من هذه الأسئلة إلى سوَين. يجيب الأستاذ في جامعة أوبسالا بداية بأنّ "روسيا أعربت عن اهتمامها بالحديث، لكنّها تريد اتّفاقاً يدعم حقّ السيطرة الجزئية (suzerainty) على أوكرانيا. هنالك غياب توازن هائل في القوة بين روسيا وأوكرانيا، ولا يوجد أمل بأن تقاتل أي دولة أخرى أو الناتو مع الأوكرانيين على أرض الميدان".
لكنْ للأستاذ المشارك في مادة العلاقات الدولية في الأكاديمية العسكرية الأميركية "ويست بوينت" روبرت بُرسون رأي آخر يوضحه لـ"النهار". بداية، وبعد التأكيد على أنّ تحليله يمثّل رأيه الشخصيّ لا رأي الأكاديميّة التي يحاضر فيها، يختلف برسون مع من يقولون إنّ الغرب فشل في الدفاع عن أوكرانيا. فروسيا على مشارف التعرّض لعقوبات "غير مسبوقة في التاريخ". كما أنّ هذه العقوبات مفروضة بالتنسيق مع حلفاء وشركاء الولايات المتحدة في أوروبا وآسيا وأميركا الشمالية وأبعد. علاوة على ذلك، تواصل واشنطن دعم أوكرانيا بالمساعدات العسكرية والإنسانية والمالية لمواجهة الاجتياح الروسيّ.
لكنّ هذا الدعم قد لا يكون كافياً لقلب موازين القوى في أيّ وقت قريب بحسب سوين: "إمداد السلاح من الغرب لا يمكنه استدامة سوى عمليات التمرد المدني، وسيلزم كسب أوكرانيا اليد العليا أو بعض توازن القوى وقتاً أطول. سيكون هنالك خسائر هائلة في الأرواح البشرية بما أنّ القوات الروسية، بالنظر إلى سجلها السابق، لن تتردد باستخدام القوة العنفية غير المتكافئة لقمع تحدي أوكرانيا". كذلك، لا يرى سوين ما يمكن للمجتمع الدولي تقديمه بالنظر إلى حقّ النقض الذي تتمتّع به روسيا في مجلس الأمن.
عن مؤشّرات التفاوض
إذا كانت أوكرانيا مستعدّة للحوار حتى بشأن الحياد – المطلب الذي رفضته كييف وبروكسل وواشنطن في السابق – فالمؤشّرات الصادرة عن موسكو لا توحي بوجود استعداد مشابه. هذا على الأقلّ ما يقوله برسون:
"لا أرى أيّ إشارات إلى أنّ روسيا مهتمّة بالتفاوض حالياً. هم يواصلون قصف مدن أوكرانية أساسيّة في الوقت الحالي وقد ألحقوا خسائر كبيرة في الأرواح. هذه ليست تصرّفات دولة تبحث عن تسوية للسلام أو حتى عن وقف لإطلاق النار. هذا بسبب أنّ لروسيا أهدافاً متطرّفة في أوكرانيا: القضاء على حكومة زيلينسكي، تنصيب نظام دمية موال لروسيا، وسيطرة طويلة الأمد على السياسات الأوكرانية". وتابع: "سيواصل بوتين شنّ هذه الحرب طالما يؤمن أنّه قادر على تحقيق ذلك".
وهذا يعني بعبارة أخرى، الاستسلام الكامل. لكنّ سوين يركّز على ضرورة تفادي الخسائر البشرية بأي ثمن كما على ضرورة إبطاء الشراكة المتوطدة بين بيجينغ وموسكو. فالإنهاء المبكر للنزاع المسلّح "سيقلّل من الخسائر في الأرواح والأملاك في أوكرانيا، وسيردع المزيد من الترابط بين الصين وروسيا وتقسيم العالم علناً إلى معسكرين".
أيّ ضمانة؟
يبقى سؤال آخر قد لا يجد إجابة عنه في المدى المنظور. لو دفع الأوروبيون أوكرانيا إلى التفاوض اليوم بشروط روسيا، فهل يمكنهم ضمان ألّا تفتعل موسكو أزمة مستقبلية شبيهة في شرق أوروبا، طالما أنّ الغربيّين مستعدّون للتنازل بهذه السرعة الكبيرة؟ بصورة عامّة، لن يكون هنالك أيّ ضمانة. كان على "مينسك-2" أن تشكّل هذه الضمانة، لكنّ الاختلاف حول تفسيرها، وكذلك خلافات الغرب حول كيفيّة دعم أوكرانيا خلال الأشهر الماضية، جعلت روسيا تنهي تلك الاتّفاقيّة حتى قبل بدء الغزو.
يشدّد برسون على أنّه "ليست الحكومة الأوكرانية التي يجب الضغط عليها لدفعها إلى التفاوض حالياً. في الفترة التي سبقت حرب بوتين، أظهر الرئيس زيلينسكي مراراً النوايا السلمية ولم يدعم قطّ الاعتداء العسكري على روسيا. إذا كان هو ومواطنوه مصمّمين على القتال لحياة دولتهم الحرة، فعندها سيفعلون ذلك".
وختم برسون تعليقه لـ"النهار" مشيراً إلى أنّه وعوضاً عن الضغط على أوكرانيا، "يجب على المجتمع الدولي فرض الضغط الأقصى على روسيا لوقف أعمالها العدائية، سحب قواتها، والموافقة على تسوية ديبلوماسية".