محبّو الأفلام التي تجمع المواضيع السياسيّة بالإثارة على موعد مع فيلم لن يخيّب ظنّهم على الأرجح.
بدأ عرض The Covenant Guy Richie’s في دور السينما من بطولة الممثّل الأميركيّ جيك جيلينهال (في دور الرقيب الأميركيّ جون كينلي) والممثّل الدنماركيّ-العراقيّ الأصل دار سليم (في دور المترجم الأفغانيّ أحمد). الفيلم الذي أخرجه وشارك في كتابة نصّه غاي ريتشي يأخذ المشاهدين في رحلة مشوّقة يلتزم خلالها كينلي وأحمد بالدفاع عن بعضهما في مواجهة "طالبان" التي وضعتهما على رأس قائمة المطلوبين.
رسالة الفيلم الأساسيّة هي توجيه لفتة إلى المترجمين الأفغان الذين عرّضوا أنفسهم للخطر والقتل على يد "طالبان" بسبب تعاونهم مع الأميركيّين. والرسالة صارخة بالتحديد لأنّ إدارة الرئيس جو بايدن كانت بالحدّ الأدنى مقصّرة تجاه الأفغان حين انسحبت من البلاد؛ للمفارقة، ساهم أحد المترجمين الأفغان في إنقاذ بايدن وسيناتورين حين علقت مروحيّته في أحد الوديان الأفغانيّة سنة 2008 بفعل عاصفة ثلجيّة. على مستوى الصورة الأوسع، كانت الإدارة مقصّرة أكثر تجاه مستقبل أميركا وصورتها العالميّة.
مصادفة
يصدف أن يبدأ عرض الفيلم بعد نحو أسبوعين على إصدار مجلس الأمن القوميّ وثيقة من 12 صفحة تدافع عن قرار بايدن الذي اتّخذه في مثل هذا الشهر منذ عامين. بحسب ما كان منتظراً، حمّلت الوثيقة الإدارة السابقة مسؤوليّة الانسحاب كما لو أنّ بايدن لم يكن بإمكانه إبطال قرار ترامب كما فعل مع قرارات أخرى له.
لقد عبّر الانسحاب عن أسوأ طريقة ممكنة لاتّخاذ خطوة بهذا الحجم: فشل بايدن في توقّعاته بأنّ "طالبان" لن تسيطر على البلاد في وقت قريب، وفي تطميناته بعدم تكرار مشاهد الإجلاء الفوضويّ في سايغون، كما فشل في توفير الحماية للجنود الأميركيّين في كابول وأخفق في التنسيق مع الحلفاء. وبالرغم من أنّ معظم المسؤولين العسكريّين أيّدوا فكرة ترك قوّة من نحو ألفي أميركيّ لحفظ الحدّ الأدنى من الاستقرار ولمنع عودة تنظيم "القاعدة" إلى البلاد، لقيت تلك النصائح تجاهلاً تاماً.
وبالكاد مضت أشهر قليلة على الانسحاب، حتى جلس الزعيم السابق لـ"القاعدة" أيمن الظواهري على شرفة أحد المباني التابعة لحلفاء "طالبان" في حيّ فاخر وسط كابول. ولم تحجب قدرة واشنطن على قتله حينذاك فكرة عجز الولايات المتحدة عن تتبّع مخطّطات "القاعدة" داخل أفغانستان لشنّ عمليّات إرهابيّة في الخارج.
بهذا المعنى، كان اغتيال الظواهري مختلفاً عن اغتيال أسامة بن لادن في عهد الرئيس باراك أوباما حين وضع الأميركيّون أيديهم على مجموعة كبيرة من الوثائق التي احتفظ بها بن لادن في مجمع أبوت آباد بعد اقتحامه واغتيال. وبالحديث عن أوباما، يبدو أنّ بايدن قفز فوق الخطأ الذي ارتكبه الرئيس الأسبق حين قرّر الانسحاب من العراق سنة 2011 بدون ترك بعض الجنود. باختصار، عرّض قرار بايدن أميركا لمشكلة أكبر.
كلمات غيّرت على الأرجح مسار العالم
بعد نحو خمسة أشهر، شنّت روسيا غزوها ضدّ أوكرانيا. ماذا كانت ردّة فعل إدارة بايدن العفويّة على الغزو؟ بحسب وكالة "أسوشييتد برس"، دعوة الرئيس الأوكرانيّ فولوديمير زيلينسكي إلى مغادرة بلاده. لكنّ الفارق هذه المرّة أنّ زيلينسكي لم يكن أشرف غني. كانت كلمات "أحتاج إلى ذخيرة، لا إلى رحلة" المنعطف الأساسيّ في الحرب، إن لم يكن في مسار النظام العالميّ. ماذا لو قبل زيلينسكي عرض واشنطن أو تشبّه بغني؟ كانت كييف ستسقط على الأغلب في غضون أيّام أو أسابيع. بالطبع، لم يكن بوتين ليتوقّف في كييف.
من المنطقيّ أن يستغلّ زخم الانتصار ليتابع اندفاعته غرباً. لقد استغلّت "طالبان" الزخم الذي ولّده الانسحاب الأميركيّ السريع وقبول بايدن بالموعد النهائيّ الذي حدّدته الحركة، كي تعيد سيطرتها على كامل البلاد. هذا بالنسبة إلى حركة محلّيّة الانتشار. بالتالي، عند الحديث عن ثاني أكبر قوّة في العالم، من البديهيّ توقّع أن تحاول التمدّد بأسرع وقت نحو الغرب أو الوسط الأوروبّيّ. يمكن افتراض أنّ روسيا لم تكن لتجرؤ على غزو دول في حلف شمال الأطلسيّ. لكنّ هذا الافتراض مبنيّ أكثر على الواقع الميدانيّ الحاليّ.
إنّ إدارةً غير مستعدّة للقتال في أفغانستان ولا لدعم دولة غربيّة كأوكرانيا لم تكن لتوحي حلفاءها بالثقة. انضمام السويد وفنلندا إلى الناتو كان ليكون أقلّ احتمالاً بينما أمكن أن تدفع بعض دول أوروبا الغربية باتّجاه اتّفاقات أمنيّة واقتصاديّة جديدة مع روسيا.
في الوقت نفسه، أمكن أن تنضمّ الصين إلى تحالف رسميّ، ربّما على شكل معاهدة، مع روسيا. حتى ولو لم يكن مقدّراً للتمدّد الروسيّ في أوروبا أن يتّخذ طابع التوسّع العسكريّ في حال سقوط أوكرانيا السريع، يبقى أنّ صورة أوروبا ككلّ كانت ستتغيّر من قارّة "أطلسيّة" التوجّه إلى قارّة خاضعة لنفوذ روسيّ متزايد، وآخر أميركيّ مشكوك بثباته. ماذا كان سيعني ذلك؟
بالنسبة إلى الجغرافيا السياسيّة، معنى ذلك أنّ روسيا كانت ستطلّ بشكل أو بآخر على المحيط الأطلسيّ. ستستغلّ روسيا انتصاريّةٌ المواردَ الأوروبّيّة المتاحة أمامها – إمّا عسكريّاً وإمّا بفضل اتّفاقات جديدة تكون فيها الطرف الأقوى – من أجل مراكمة قدراتها بمواجهة الولايات المتحدة، بل حتى لتهديد الممرّات البحريّة الحيويّة لواشنطن. في ظلّ السيناريو الحاليّ، بات شبهَ مستحيل توقّع خروج روسيا من حربها كقطب عالميّ موازن للصين، ناهيكم عن الولايات المتحدة. لكن في ظلّ سقوط سريع مفترض لأوكرانيا، كانت نتيجة كهذه أكثر احتمالاً.
فرصة نادرة
صمود زيلينسكي كان العامل المحوّل الأساسيّ الذي منع النظام العالميّ بقيادة الولايات المتحدة من السقوط أو التغيّر. بطبيعة الحال، لم يكن موقف زيلينسكي والحماسة الأوكرانيّة وحدهما كافيين لتكبيل روسيا في شرق البلاد. الدعم العسكريّ الأميركيّ الهائل لكييف لعب ولا يزال وسيظلّ يلعب الدور الحاسم؛ لكنّه دعمٌ لم يكن ليأتي على الأرجح لو فضّل زيلينسكي العيش برخاء في إحدى الدول الغربيّة على المخاطرة بالبقاء في أوكرانيا والدفاع عنها.
ثمّة مراقبون أميركيّون يدعمون سياسة بايدن تجاه كييف لكنّهم ينتقدون قراره في أفغانستان وتهرّبه من تحمّل المسؤوليّة إلى حدّ كبير. كان الانسحاب من أفغانستان أحد العوامل الحاسمة في اتّخاذ بوتين قرار غزو أوكرانيا. تذرّعُ إدارة بايدن بخطّة (أو "لا خطّة") ترامب للمضيّ قدماً في قرارها يعني تفضيل لعبة الذرائع على التعلّم من الأخطاء. اتّهام ترامب بأنّه كان مخطئاً في أفغانستان لم يُدخل أيّ جديد على المسرح السياسيّ. في نهاية المطاف، استقال جون بولتون من منصبه كمستشار للأمن القوميّ، تحديداً بسبب السياسة الأفغانيّة للرئيس السابق. إحدى مشاكل بايدن أنّه اتّخذ قراره حتى قبل أن ينهي مستشاروه صياغة الاستراتيجيا تجاه أفغانستان بحسب البعض، ربّما لأنّه كان قد حسم خياره منذ فترة طويلة.