هل تجاهلَ بوتين نصيحة مكيافيلّي؟

مذهلاً بدا حجمُ الصدى الذي تركته نصيحة بعد أكثر من خمسة قرون على توجيهها. سنة 513، حذّر الديبلوماسيّ الفلورنسيّ نيكولو مكيافيلّي الدوق لورنزو دي ميديتشي من مغبّة الاعتماد على مقاتلين من خارج جيشه النظاميّ. في الفصل الثاني عشر من كتابه "الأمير"، لفت نظر الدوق إلى القاعدة التالية:

"أودّ أن أقول إنّ القوّات المسلّحة التي يعتمد عليها الأمير في الدفاع عن ممتلكاته، إمّا أن تكون خاصّة به أو مرتزقة، أو رديفاً أو مزيجاً. والمرتزقة والرديف قوّات غير مجدية، بل ينطوي وجودها على الخطورة. وإذا اعتمد عليها أحد الأمراء في دعم دولته، فلن يشعر قط بالاستقرار أو الطمأنينة...".

في 24 حزيران 2023، كان هذا الصدى يتردّد بين أروقة الكرملين.

 

بالفعل، لم يكن مطمئنّاً

ليس واضحاً ما إذا كان الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين قد قرأ "الأمير"، كما فعل مثلاً جوزف ستالين. لكن يبدو أنّه لم يكن يشعر بالطمأنينة من تضخّم قوّة "فاغنر" بقيادة يفغيني بريغوجين. في وقت سابق من الشهر الحاليّ، طلبت وزارة الدفاع الروسيّة من جميع التشكيلات التطوّعيّة إبرام عقود معها على أن تُمنح المزايا الاجتماعيّة والماليّة نفسها التي تُمنح للجيش الروسيّ. بالحدّ الأدنى، تمّ اتّخاذ القرار بالتشاور بين وزير الدفاع سيرغي شويغو وبوتين، إن لم يكن بمبادرة شخصيّة من الأخير. على الأرجح، كان الطرفان يعلمان أنّ تجاوز بريغوجين للخطوط الحمراء مسألة وقت.

وضعُ قرار الوزارة تاريخ 1 تمّوز موعداً نهائيّاً لإبرام التشكيلات عقودها يرجّح وجود إحساس بالخطر. وإلّا لمَ الاستعجال في وضع إطار تنظيميّ جديد لها والهجوم الأوكرانيّ المضادّ بالكاد انطلق. انقلابُ موازين القوى بين الجيش و"فاغنر" لمصلحة الثانية كان واضحاً مع فشل هجوم الشتاء. في وقتٍ عانى الجيش الروسيّ كثيراً في تحقيق أيّ تقدّم يُذكر على طول الجبهة، كانت "فاغنر" تحقّق على الأقلّ انتصاراً رمزيّاً محدوداً في سوليدار وباخموت. لكن مقابل هذه الانتصارات الرمزيّة، كانت هيبة روسيا تتآكل بفعل الانتقادات المستمرّة التي وجّهها بريغوجين إلى شويغو ومعه رئيس هيئة الأركان العامّة فاليري غيراسيموف.

بشكل محتمل، عجّل قرار وزارة الدفاع تمرّد بريغوجين. لم تنحصر المشكلة في التوجّه العسكريّ لمقاتلي "فاغنر" نحو موسكو وحسب. كشف التمرّد بطء الأجهزة الروسيّة في رصد مخطّط بريغوجين ومنع تقدّمه. خلال نحو 30 ساعة، كانت قوّاته قد اجتازت 700 كيلومتر تقريباً من روستوف-أون-دون في جنوب البلاد وصولاً إلى مشارف العاصمة عند نهر أوكا.

 

توقّعٌ مكيافيلّيّ آخر

من أسباب عدم ثقة مكيافلّي بالمرتزقة أنّها "طموحة" و"لا تحفظ العهود والمواثيق". أن يكون بوتين هو من رعى بريغوجين وساعده على تأسيس "فاغنر" لم يكن كافياً لمنع الانقلاب عليه. يمكن القول إنّ بريغوجين "لم ينقلب" على الرئيس الروسيّ وإنّ خطوته "تمرّد" على القيادة العسكريّة وحسب. لغويّاً، قد يكون هذا التوصيف أقرب إلى الدقّة. لكن سياسيّاً، وبعدما أوضح بوتين حمايته لشويغو وغيراسيموف، يُصبح هذا التمييز مجرّداً إلى حدّ كبير من مدلولاته.

مجدّداً، يقول مكيافيلّي عن قادة قوّات المرتزقة: "إمّا أن يكونوا رجالاً في منتهى الكفاءة أو في منتهى العجز. وإذا كانوا من الأكفّاء فعلاً، فليس في وسعك الاعتماد عليهم لأنّهم سيتطلّعون دائماً إلى تحقيق أمجادهم الشخصيّة، إمّا عن طريق اضطهادك أنت، سيّدهم، أو اضطهاد الآخرين، (إقرأ هنا: شويغو)، عاصين في ذلك أوامرك".

سرت دوماً شكوك في أن يكون بريغوجين طامحاً للعب دور سياسيّ. قال الشهر الماضي إنّه يريد أن يصبح رئيساً لأوكرانيا سنة 2024. وفي أيّار، دخل اسمه للمرّة الأولى قائمة الشخصيّات العشر التي يستطلع مركز "ليفادا" شعبيّتها (4% مثل مدفيديف). كان بريغوجين يحرص دوماً على أن يكون بين مقاتليه في الخطوط الأماميّة وأن يزور بعض عائلات قتلاه منتقداً القادة العسكريّين لمواصلة "حياة الرفاهية" التي يعيشونها. وفي 8 حزيران، حلّ بريغوجين خامساً (قبل شويغو) في استطلاع لـ"مركز أبحاث الرأي العامّ" في روسيا. لا يعني ذلك أنّ بريغوجين أمكن أن يحلّ مكان بوتين، لكنّ ملامح تحوّل في المشهد السياسيّ بدأت تطرأ، وأغلب الظنّ من دون رضا الرئيس.

 

كان بوتين مدركاً لحجم المعضلة التي يواجهها: من دون "فاغنر"، يبقى جيشه عاجزاً عن تحقيق انتصارات ولو رمزيّة يقدّمها للداخل. وبمشاركتها في القتال، تتعزّز الجبهة قليلاً مقابل تزايد احتمالات إفلاتها من قبضته. والإفلات كان باهظ الثمن: تناقض بين "جهاز الأمن الفيديراليّ" الذي أراد اعتقال بريغوجين وحضور نائب رئيس "الاستخبارات العسكريّة الخارجيّة" فلاديمير أليكسييف لمقابلته صباح السبت؛ اختفاء شويغو وغيراسيموف عن الأنظار طوال فترة التمرّد وعجز الجيش عن اتّخاذ قرار واضح بشأنه؛ إعلان بوتين أنّ بريغوجين (من دون أن يسمّيه) "خائن" ثمّ القبول بصفقة معه بعد ساعات على التعهّد بتدفيعه الثمن...

 

رسالة من مكيافيلّي إلى بوتين

استطاع الرئيس الروسيّ تخطّي المحنة في نهاية المطاف عبر وساطة من حليفه البيلاروسيّ ألكسندر لوكاشينكو. لا يزال جزء من بنود الوساطة غامضاً، لكن من غير المستبعد أن تتّجه "فاغنر" إلى الاندماج في الجيش الروسيّ أو التفكّك بطريقة من الطرق. إنّما قد يحصل ذلك بعد فوات الأوان.

"والأمير الذي يعتمد على مثل هذه القوّات، قد يؤجّل دماره المحتوم، إذا تأجّل الهجوم الذي سيتعرّض له. وهكذا فإنّ هذا الأمير يتعرّض أيّام السلم للنهب من المرتزقة، وفي أيّام الحرب للنهب من العدوّ".

في حين أنّ "النهب" غير مؤكّد، يبقى أنّ الدمار الذي لحق بالجيش الروسيّ بسبب "فاغنر" دمار مادّيّ ومعنويّ وازن. في يوم واحد، أسقطت "فاغنر" ستّ مروحيّات عسكريّة روسيّة على الأقلّ. هو عدد أكبر من المروحيّات التي أسقطتها أوكرانيا طوال هجومها المضادّ الذي أبطأته إلى حدّ كبير بعض تلك المروحيّات.

 
 

وفي حين أنّه صعُبَ توقّع حلول نهاية بوتين على يد "فاغنر" – أحد أسباب تراجع بريغوجين المحتملة هو إدراك عدم إمكانيّته السيطرة على موسكو – من الصعب قول الأمر نفسه عن صورة استقرار حكم بوتين. قد ينسى العالم فشل احتلال كييف وإغراق "موسكفا" والتقهقر السريع من خاركيف واستهداف جسر القرم والاغتيالات داخل روسيا. لكن ستمرّ فترة طويلة جدّاً قبل نسيان ما فعلته "فاغنر" في 24 حزيران وطريقة الردّ الروسيّ عليه. في الخلاصة، كان رجل الدولة الفلورنسيّ محقّاً في توقّعه: كلفة "فاغنر" أكبر من المكاسب المرتجاة منها، إن لم تكن أيضاً أكبر من مجموع المكاسب التي حقّقتها في الماضي لمصلحة روسيا.

في 6 آذار 2014، أي بعد أيّام على نجاح روسيا السريع بضمّ القرم، كتب جوزف يوفه في مؤسسة "هوفر" الأميركيّة رسالة خياليّة من مكيافيلّي إلى بوتين: "أريد أن أهنّئك. أنت واحد من أفضل تلامذتي".

قد لا يمرّ وقت طويل قبل معرفة ما إذا كانت الرسالة متسرّعة.