الباعة الجوالون في اسطنبول... إرث اقتصاد الإمبراطورية العثمانيّة المتضخّم

يشعر الباعة الجوالون في اسطنبول، وهم ورثة مهنة شعبية تعود أصولها إلى زمن الإمبراطورية العثمانية، بالقلق إزاء خسارتهم قسما كبيرا من زبائنهم الأتراك بفعل تداعيات التضخم.
 
في الصباح الباكر وتحت شمس ساطعة، يدفع هاكان دنيز عربته الحمراء والذهبية نحو ساحة مسجد رستم باشا، في منطقة سياحية بإسطنبول القديمة. وما هي إلا لحظات بعد أن يتوقف الشاب هناك، حتى تفوح الذرة المحمصة والكستناء.
 
 
يعشق البائع البالغ 18 عاما المهنة التي اختارها قبل ست سنوات عندما ورث عربة والده. لكنّه بات في الأشهر الأخيرة يشعر بالقلق.
 
ويقول متنهدا وهو يقدم لسائح أميركي كيساً من الكستناء بعد وزنه بعناية "بسبب التضخم (52% خلال عام واحد في آب)، خسرت نحو نصف زبائني".
 
ويشكو هاكان دنيز من أن "المستقبل مشوب بالقلق" بالنسبة له ولأمثاله من الباعة الجائلين، ويتساءل أحيانا كيف يمكن لهذه المهنة "أن تبقى موجودة في المستقبل" في ظل افتقار العاملين فيها إلى راتب مستقر وضمان اجتماعي وتعويضات تقاعدية.
 
لكن لا غنى لاسطنبول عن هؤلاء. فشخصية بائع الطعام المتجول لا تنفصل عن صورة المدينة التي يبلغ عدد سكانها اليوم 16 مليونا، بل تجذرت في مشهدها من جيل إلى جيل. وعند حلول الظلام، تشكل هذه المطاعم الصغيرة المتنقلة المضاءة بمصابيح النيون جزرا من النور، فيما تمتزج في الأجواء الروائح المنبعثة منها، من المحار المحشو هنا إلى السمسم الساخن لخبز السيميت التقليدي الصغير المستدير هناك.
 
تقاليد عثمانية
ولاحظ الباحث في جامعة إزمير للاقتصاد عثمان سيركيجي لوكالة فرانس برس أن صورة هؤلاء الباعة "إيجابية عموما". ويُنظر إلى بعضهم، كباعة معجون الماكون الحلو والملون المصنوع من التوابل، على أنهم ورثة "تقاليد عثمانية".
 
 
في أعقاب جائحة كوفيد، شهدت هذه المهنة التي تعود إلى قرون من الزمن طفرة، إذ لجأ إليها مليون شخص إضافي، وفقا للباحث، نظرا إلى كونها توفر حلاً بديلا لمن يجدون صعوبة في العثور على عمل.
 
وبات في تركيا اليوم سبعة ملايين بائع متجول من كل الأنواع، بينهم القانونيون وغير القانونيين، بحسب سيركيجي.
 
لكن زيادة معدل التضخم تركت أثرا شديد السلبية على هذه المهنة التي غالبا ما تكون مداخيل العاملين فيها منخفضة مع هوامش ربح ضيقة.
 
ويوضح سيركيجي أن "تكاليف الباعة الجائلين أقل بكثير من تكاليف الشركات التقليدية، لأنهم لا يدفعون بدلات إيجار ولا فواتير كهرباء"، لكنهم يشترون المكوّنات التي يستخدمونها بأسعار مرتفعة، لأنهم "نادرا ما يقيمون علاقة مباشرة مع منتجيها"، بل يحصلون على هذه المواد الخام من خلال وسطاء يتقاضون عمولات عالية، فيعززون المنحى التضخمي.
 
ويلاحظ نوري جييك (54 عاما) أن "سعر السمسم ارتفع، وكذلك سعر الدقيق. كل شيء باهظ الثمن!". ويضيف أنه كان يبيع خبز السيميت الذي يصنعه بليرة تركية واحدة قبل بضع سنوات، في حين يبيعه اليوم "لقاء 15 ليرة!".
 
مخصص للسياح؟ 
ويؤكد مدحت أتيلغان، بائع الفواكه والخضر المزروعة في منطقة بورصة، على بعد 150 كيلومترا من إسطنبول، أن "أكلاف النقل ارتفعت أيضا".
 
وانعكس ذلك سلبا على المبيعات التي "ليست على ما يرام" لأن سكان إسطنبول لا يستطيعون مجاراة ارتفاع الأسعار، بحسب أتيلغان الذي يبيع التين الطازج على عربته المتواضعة. ويقول إن "الأغنياء وحدهم هم الذين يستطيعون شراء الفاكهة" اليوم.
 
ويشرح بائع الذرة هاكان دنيز أن هذا الوضع أدى إلى نتيجة ملموسة، ففي السابق، كان معظم زبائنه من الأتراك، "لكنّ الحال لم تعد كذلك، إذ أن 70 في المئة من الزبائن هم اليوم من السياح".
 
وعلى بعد خطوات قليلة، يخشى مصطفى دمير أن يواجه المصير عينه. فلدى بائع الخيار المخلل (وعصيره المالح) "قاعدة جيدة من الزبائن الأتراك الثابتين"... ولكن إلى متى؟ يقول "أخجل من بيع أوعيتي المخلل الزجاجية في مقابل 40 ليرة لزبائني الأوفياء"، في حين أن ثمنها "لم يكن يتجاوز 15 سنتاً في مرحلة معينة".
 
في نهاية المطاف، من دون هؤلاء الزبائن المحليين، "ستنقرض المهنة"، على ما يقول هاكان دنيز، مع أن باحثين كعثمان سيركيجي بستبعدون سيناريو كهذا. ويضيف دنيز "انظروا إلى بائعي البوزا (المشروب المخمر المصنوع من الحبوب)! اليوم، لا يوجد شيء تقريبا في إسطنبول!".