يدين العالم إلى الفوتوغرافيا بتغيير مسارات بعض الأحداث، وإماطة اللثام عن أخرى؛ فكثيراً ما تُنسب إليها قوّة جارفة لا تُثنيها تأويلاتٌ، بوصفها الوسيلة الأكثر حياديّة في نقل الحدث والتعامل معه، والأرفع من الإسقاطات الشخصيّة، ضمن إطار الواقعيّة المفرطة التي تناولها الفيلسوف الفرنسيّ جان بودريار.
وإذ تتعزّز هيمنة الصّحافة ومكانتها بالقوّة الجبّارة، التي للفوتوغرافيا، حدّ التلاعب بالجمهور، ولقدرتها على إشراك الجمهور في الشهادة وإثارة مشاعر الصدمة والغضب والتنديد، يحضرنا - كلّما تكلّمنا على الصورة وسيميائيّتها - قول المصوّر الهنغاريّ "لازلو موهولي ناجي" إنّ "الأُمّيّ غداً لن يكون مَن يجهل الكتابة، بل مَن يجهل الفوتوغرافيا".
* * *
كنتُ في السادسة من عمري حين وقعتُ على صورة بالأسود والأبيض في كتابٍ للصحافيّة الفرنسيّة ماري مونيك روبان، فتكبَّدَت صفحَتَيْن إلى جانب عنوان غليظ مُقتضب، "احترقوا بالنابالم" (Brûlés au napalm). كانت الصورة واحدة من مجموعة لقطات صحافيّة طبعت القرن العشرين، وقد التقطها المصوّر الأميركيّ الفيتناميّ "نيك أوت" لصالح وكالة "أسوشيتد برس".
تُظهر صورة "أوت" التي انتزعت جائزة "بوليتزر" (1973) عن فئة تصوير الأخبار العاجلة، وباتت تُعرف باسم "إرهاب الحرب" ("رعب الحرب"/The Terror of War)، طفلةً عاريةً في التاسعة من عمرها، تجري نحو الكاميرا هرباً من "هجوم نابالم" في قرية "ترانغ بانغ" الجنوبيّة خلال حرب فيتنام."أشعر بحرٍّ شديد، أعتقد أنّني أموت"، صرخَت الطفلة قبل 50 عاماً مثل يوم أمس، بينما غطّى سائل النابالم ذراعيها. شغّل "أوت" الكاميرا من دون تردّد، وامتزج صوت مصراعها بصوت الطفلة، فوُلدت واحدة من أولى الصور "الڤايرل" حول العالم، أي تلك التي تُشكّل حالة إعلاميّة فيروسيّة يصعب ضبطها.
(المصوّر نيك أوت خلال زيارة إلى الطفلة فان ثي كيم فوك/أسوشيتد برس)
هي "فان ثي كيم فوك". وتعني كلمة "فوك" (Phúc) باللغة الفيتناميّة "الفرح". وبدلاً من أن يكون لها من اسمها نصيب، كان قدرها مؤلماً وحارقاً.
استهدف هجومٌ بالنابالم، وهو سلاح كيميائيّ يُستخدم كقنبلة حارقة، قريتها في جنوب فيتنام، على بعد 65 كيلومتراً شمال سايغون؛ سلاحٌ لا يزال مرتبطاً بحرب فيتنام، كارتباط كبريتيد الخردل بالحرب العالميّة الأولى.
أصاب النابالم الهلاميّ الطفلة، فالتَصَقَ بجلدها مُذيباً ملابسها حتّى اختفت تماماً. ركضت نحو المصوّر، ذراعاها ممدودتان، عيناها غائرتان، وفمها مفتوح على ألف كلمة لم تستطع أن تلفظها. صرخت من الألم، وربمّا من الرعب. كانت تُفكّر في أنّ جسدها قد احترق، وأنّها ستُصبح قبيحةً ومدعاةً للسخرية.
"Nóng quá, nóng quá!"، "حارّ جدّاً! حارّ جدّاً"، صرخَت الطفلة. وبنقرة واحدة، خلعَ المصوّر الشاب (21 عاماً يومذاك) اسماً على الصراع في فيتنام اختصر ويلاتها، من خلال كلمة "Terror" التي أطلقها على صورته.
فور ورودها، نُشرت الصورة المأسويّة في الجريدة المسائية في تورنتو، ثمّ احتلّت حيّزاً من صفحات "نيويورك تايمس" و"نيويورك ديلي نيوز" و"لوس أنجلوس تايم"، وأكثر من 20 صحيفة في الولايات المتّحدة، قبل أن تغزو صحف أوروبا والعالم، وباتت رمزاً للمشاعر المناهضة للحرب، وأيقونة صارخة مستقلّة عن أيّ سياق كلاميّ، وعابرة للأزمنة.
كان للصورة وقع الصدمة الكهربائية على الرأي العام الدوليّ المعارض لحرب فيتنام. يروي "أوت" أنّه سمع مراراً أنّها عجّلت بنهاية الحرب التي استمرّت حتى نهاية نيسان 1975. ومع ذلك، لا دليل يدعم الادّعاء، كما أنّه لا يبدو أنّ "The Terror of War" قد أثّرت بشكل كبير في الرأي العام الأميركيّ، إلّا أنّ وقعها الحادّ دفع الرئيس الأميركيّ الأسبق ريتشارد نيكسون إلى السؤال بشكل سرّي عمّا إذا كانت الصورة "مُمسرحة"، وهو ما أكّدته وثائق تابعة للبيت الأبيض أُصدرت بعد عقود.
(فان ثي كيم فوك بعدسة ماي ترونغ/نيويورك تايمس)
في مقال رأي نشرته "نيويورك تايمس" الإثنين بعنوان "لقد مرّ 50 عاماً. لم أعد "فتاة نابالم" بعد الآن" (It’s Been 50 Years. I Am Not "Napalm Girl" Anymore)، تَصِف كيم فوك المأساة، وكيف أنقذ "أوت" حياتها. فبعد أن التقط الصورة، وضع الكاميرا جانباً، ولفّ الطفلة ببطانيّة، وأخرجها من الموقع لتلقّي الرعاية الطبيّة العاجلة. "أنا ممتنّة له إلى الأبد"، تقول.
صُدم "أوت" برفض الأطبّاء علاج الطفلة بعد أن نقلها إلى المستشفى بسيّارة "أسوشيتد برس"، بذريعة أنّ "حروقها بالغة جدّاً، ويصعب إنقاذ حياتها". شَهَر بطاقته الصحافيّة، وهدّد بأنّ صورها ستُنشر صباح الغد حول العالم، قبل أن ينجز عمليّة التحميض حتّى، مُرفقة بملاحظة تؤكّد رفض المستشفى مساعدتها.
تبحث كيم فوك في ذاكرتها عن تفاصيل أخرى، فتروي كيف انتابتها مشاعر الكره أحياناً تجاه المصوّر. "كبرت وأنا أكره تلك الصورة"، تقول، قبل أن تسترجع جُملة أسئلة راودتها: "لماذا التقط تلك الصورة لفتاة صغيرة عارية؟ لماذا لم يحمِني والداي؟ لماذا طَبَع الصورة؟ لماذا كنت الطفلة الوحيدة العارية بينما كان إخوتي وأبناء عمومتي يرتدون ملابسهم؟".
شَعَرَت الطفلة بـ"القبح والخجل"، على ما تؤكّد؛ وفي وقت لاحق، خنقتها نظرات الشّفقة وتجنّب الأطفال لها.
في ذلك الوقت، كان "أوت" في مكتبه يختار بعناية الصّورة الأكثر حدّة من بين أخريات؛ إحداها أظهرت حروق الطفلة بشكل قويّ، وأشعلت جدلاً واسعاً حول استخدام النابالم.
يروي كيف أخبره الفنّي الذي يعمل في الغرفة المظلمة، وكلّ من شاهد الصورة، بأنّها "قويّة للغاية"، وأنّها ستفوز بالـ"بوليتزر".
"ستبقى تلك الصورة بمثابة تذكير بالشرّ الذي لا يُوصف، والذي يُمكن للبشريّة القيام به"، تقول كيم فوك، التي تعيش في كندا، وتُدير منظمة تُقدّم المساعدة للأطفال ضحايا الحرب حول العالم. رسالتها نابعة من إيمان بـ"أنّ السلام والحبّ والأمل والمغفرة قِيَم ستكون دائماً أقوى من أيّ نوع من الأسلحة".