حكاية طويلة، ومشهد بيروتي مُسيّج بتداعيات القلق، وهذا رفيق نادراً ما يُفارق تنهّدات استسلامنا! نقف في إحدى زوايا فُسحة Art On 56th القائمة في شارع يوسف حايك – الجميزة... دردشة سريعة ومُتعّمقة في آنٍ مع فنّان ألوانه مُمزّقة، ومُتناثرة... لم لا؟! بل مُكدّسة بانسجام، وفق الدكتور عبدو بويز في كلمة له في الكرّاس، الذي يُسلّط الضوء على بيان الفنّان.
ألوانه تُحاكي التوتّر الذي يعيشه اللبنانيّ فيما الفراغ ينساب باعتداد العاشقة في اتجاه واقعه الطنّان المُتّسم بالأبهة.
همهمات زوّار الغاليري الأنيقة والمينيماليّة في إطلالتها تزوّد اللقاء بعض دفء، وشعوراً بالأمان، تشتدّ الحاجة إليه اليوم أكثر من أيّ وقتٍ مضى.
البداية؟ "لا علاقة لها مُطلقاً بأيّ تصوّر عقلانيّ للعمل"، وفق ما يقول الفنّان منصور الهبر عن معرضه الفرديّ الأخير "الجمال السلبي".
الأعمال في المعرض هي بكلّ بساطة امتداد طبيعيّ لكلّ ما يحدث لنا في بلد عالقٍ وسط عاصفةٍ رعديّةٍ أشبه بقصيدة غير عقلانيّة.
قد تكون الأعمال حكاية "التصادم بيني وبين الأحداث اليوميّة؛ بيني وبين وجودي وكلّ ما يحصل! هذه العناصر مُجتمعة تخلق في داخلي التوتّر".
ربّما لهذا السبب أطلق على اللوحات بعض عناوين "مدوية" قد تأتي على شكل: "خطر"، "حريق"، "فراغ"، "متعة سلبيّة"، "خال من المشاعر".
وكان لا بدّ له من أن يُطلق على المعرض عنوان "الجمال السلبيّ" (Beau Negatif)، لأن الأعمال لا تقع في خانة التجريديّ. وهي بكلّ تأكيد لا تُعبّر أو تدّعي التعبير عن أحاسيس الهبر ومكنونات مُخيّلته.
"هذه الأعمال غير مُريحة" من حيث رسالتها.
في داخل إطار الكانفا، صراعات وأكثر من قصّة.
والأعمال لا تتعب "نفسها" بالانغماس في الرّموز، ولا تحتاج إلى الأشكال للتعبير عن جنونها، الذي هو في الواقع الانعكاس الحقيقيّ لجنون بلد يغرق في سخرية القدر وكلّ ما يُمكن أن تعكسه هذه الجملة الشاعريّة، التي لا تخجل من إطارها "الكليشيه".
قد تضطلع الألوان بدور الأشكال.
"وكأنّ الشكل هو المساحة أو النسيج أو الكولاج".
الصراع (الداخلي والخارجي) يُعلن عن حضوره بلا خجل.
هو الامتداد الطبيعيّ لبلد لا ينتظر أحداً. ولم يعد ينتظر أيّ شيء.
"الأعمال متوترة. أُنجزت (ع نار قويّة)"، والكانفا الواحدة مؤلَّفة من أكثر من وسيط فنيّ.
وأحاديث الزوّار الجانبيّة في الفسحة، التي تحتفل بـ10 أعوام من النضال بواسطة الفن، بديهيّة، تُحاول القفز فوق هذا الفراغ المُميت (داخل الجسد وخارجه!).
منصور الهبر يرى في الفنّ العلاج الأكيد لهذه التقلّبات التي تنهال علينا "بالجملة".
فعندما يغوص الفنّان في عمله، يُمكننا التأكّد من أنه في الواقع يغوص في حنايا الروح.
لو لم يكن الفنّ يستريح على العلاج، لما كنّا زعمنا بأنه يُخلّص ويُنقذ.
"ولكن الفن يُخلّص ويُنقذ. وهو يُسعف الفنّان وعاشق الفن في آن".
محترف منصور الهبر كناية عن غرفة صغيرة "فوق البيت".
يجلس فيها ويُترجم الصّراعات والقلق والتوتر احتفالات صاخبة.
لا يجلس بطبيعة الحال فيها لساعات طويلة، لأنّ عليه أن يُقسّم وقته بين التعليم والأمور الحياتيّة المحوريّة التي قد تأتي على شكل: "بودّي ولادي ع المدرسة".
يزور الغرفة – المحترف بين المسؤوليّات، "شوي عبكرا، وشوي بالليل".
استغرق العمل على المعرض ما يُقارب السنة ونصف السنة.
منصور الهبر يأخذ وقته ليروي هذا التأرجح بين الواقع والسورياليّة التي نعيشها قدراً.
الفن "منّو Projet (مشروع)" بالنسبة للفنان.
أحياناً قد تمرّ 4 أو 5 أيام من دون مواجهات ضارية مع الكانفا في المحترف الصغير القائم "فوق البيت".
وعندما لا يرسم، يقرأ.
وأحياناً "ما بعمل شي".
يجلس في المقهى مع الأصدقاء الفنّانين، أو "أغوص في التأمّل".
يحتاج إلى العديد من الأنشطة قبل العودة إلى اللوحة.
لا يحبّ العجقة. ولهذا السبب يقرأ كثيراً. تروقه القراءات التي تُعنى بالفن.
قد يفترض المرء أن بحوثه حول الفنّ كثيرة.
"من وقت لوقت"، يكتب. يلجأ إلى النقد الفنّي. ربما ليفهم أو ليغوص بعمق في عوالم لا تُشبه عالمه.
أو ربما تُشبهه أكثر من اللازم.
هذا الوضع الذي نعيشه يُخيفه، بكلّ تأكيد.
وهو يحثّه على ترجمة الغصّة العالقة في حنايا روحه، عشرات "البُقع" المُلوّنة داخل الكانفا.
والبُقع غير مُريحة.
وهذا الوضع غير العقلانيّ الذي نعيشه قصيدة مُشوّشة "بيعمللي قلق".
يصمت منصور الهبر قليلاً قبل أن يُعلّق بهدوء، "شغلي هوّي شخصيّتي".