صبيحة السادس من أيلول 1997، عَنونت "النهار" خبر رحيل آغنيس غونكزا بوجاكسيو، المعروفة باسم الأم تريزا الكلكوتيّة: "ماتت الأم تريزا، بحر الرجاء في صحراء اليأس"، واصفةً إيّاها بـ"أم الفقراء والمعذّبين".
قبل 25 عاماً، رحلت تريزا في كلكوتا، المدينة التي تجسّد كلّ بؤس الأرض وكلّ أمل البشريّة. رحلت الراهبة المتواضعة بصمتٍ عشيّة دفن صديقتها الأميرة ديانا. رحلت راضيةً عن توقيت وفاتها الذي كان من شأنه إذابة الحدث في موجة دراما ويلز. إلّا أنّه، في غضون ساعة من إعلان النبأ، اجتمع الآلاف في زقاق ضيّق في كلكوتا، ليودّعوا بالصلاة امرأة أكسبها اهتمامها بالبائسين جائزة نوبل للسلام عام 1979.
نُكّست الأعلام وأُعلن الحداد الوطنيّ في الهند. نقلت سيّارة إسعاف بيضاء مغطّاة بالياسمين النعش، وسارت مسافة كيلومترين إلى كنيسة القديس توما. هناك، في وسط الكنيسة الأكبر والأقدم في المدينة، وأمام المذبح الحجريّ، استراح جثمان تريزا داخل نعش زجاجيّ وفوق غطاء أبيض وأزرق. ومن جداريّة زجاجيّة للعشاء الأخير، في صمت تماثيل الملائكة، زارته أشعّة الشمس كلّ صباح حتى موعد الجنازة.
خصّصت الصحف الهنديّة صفحاتها الأولى للأم تريزا والأميرة ديانا. وخرجت صحيفة "بايونير" بعنوان: "سيّدتان كبيرتان وحّد الموت مصيرهما". وفي أرجاء الدير القديم الذي يحتضن كنيسة القديس توما، والذي بدأت فيه تريزا حياتها راهبةً في خدمة "أفق الفقراء"، رُفعت صورها مع عبارة: "الأم (تريزا)، نحن نحبّك". ومن الجانب الآخر عبارة مستوحاة من الإنجيل: "كنتُ جائعاً، متّسخاً، عرياً وبلا مأوى... لقد ساعدتِنا".
"ملأتِ الجنّة بفقرائكِ"
قبل وفاتها بفترة وجيزة، في 22 أيار 1979، روت الراهبة الألبانيّة الأصل تصوّرها عند وصولها إلى الجنّة. سألها الكاردينال بيو لاغي في روما: "لدى وصولك إلى باب الجنّة أمام القديس بطرس، ماذا سيحدث؟"، فأجابت: "في ذلك اليوم، سيقول لي، ماذا فعلتِ يا أم تريزا، ملأتِ لي الجنّة بكلّ فقرائكِ".
– عندما تقفين أنت بنفسك أمامه؟ أعاد الكاردينال السؤال بإصرار.
– سيعرفني.
– لا شكّ في ذلك، أجاب بيو لاغي، إنّ القديس بطرس سيصفّ كلّ الأشخاص الذين أرسلتِهم إليه في السنوات الأخيرة.
– إنّ عددهم 50 ألفاً ويموتون جميعاً ومعهم بطاقات دخول إلى الجنّة.
– سيحضرون للقائك ولتحيّتك.
– سيكون شيئاً رائعاً.
بيروت 82
خلال الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 وحصار بيروت، استدعى البابا يوحنا بولس الثاني الأم تريزا بعدما حازت جائزة نوبل للسلام عام 1979 إلى حاضرة الفاتيكان، وطلب منها أن تكون سفيرته إلى بيروت وممثّلته.
لمّا وصلت إلى بيروت، سألت رئيس بعثة الصليب الأحمر في "الغربيّة" جون دي ساليس: "ما مشكلتنا الأكثر أهميّة؟"، فأجابها: "عليكِ أن تأتي وتشاهدي هؤلاء الأطفال". ولمّا رأتهم قالت له: "سوف آخذهم".
أسهمت تريزا في إجلاء 37 طفلاً من ذوي الاحتياجات الخاصة من مستشفى دار العجزة الإسلاميّة في صبرا، بعدما استطاعت أن توقف إطلاق النار ريثما تُنهي مهمّتها.
وُضع الأطفال في أربع سيارات تابعة للصليب الأحمر. ورافقتهم الراهبة التي كانت في الثانية والسبعين من عمرها، عبر خطوط التماس إلى "مدرسة الربيع" التي كانت تابعة لمرسلات المحبّة في "المنطقة الشرقيّة". يومها، قالت الأم تريزا جملةً رافقتها طوال سيرتها: "لو تُصرف الأموال الهائلة المخصّصة لأسلحة الدمار على المحتاجين".
ونقلت "نيويورك تايمس" عن الأم تريزا قولها: "لم أزر مكاناً تشتعل فيه الحرب من قبل، لكنّني عاينت الجوع والموت. ولطالما تساءلت بما يشعر البشر عند القيام بذلك. لا أفهم الأمر، فجميعهم أبناء الله. لماذا يفعلون هذا؟ لست أفهم".