الدكتور ناصر زيدان
يواجه القضاء في لبنان أزمة غير مسبوقة، تكاد تكون الأخطر في تاريخ الجمهورية. ويتناول السياسيون ما يجري في المحاكم في العلن، برغم أن القانون يمنع التعرُّض لأعمالها، والتحقيقات سرية في غالبية مراحلها، لا سيما الاستنطاقات الأولية والأدلة والشهود التي تتعلَّق بالملفات الجنائية، لأن الكشف عن هذه التحقيقات له تبعات كبيرة، وفيه محاولة للضغط على القضاة، ويشكل خطراً على الشهود، ويؤدي لاحقاً الى التشكيك بالأحكام.
القضاة في لبنان مستقلون وفق ما تنص عليه المادة 20 من الدستور، وهم يُصدرون الأحكام باسم الشعب اللبناني بموجب القوانين المرعية الإجراء، وبعض الصلاحية المعطاة للسلطة التنفيذية ولوزير العدل على القضاء، لا تعدو كونها مهمات إدارية تكميلية، لا سيما منها إقرار التشكيلات القضائية التي يقترحها مجلس القضاء الأعلى. لكن رئيس الجمهورية استخدم هذه الصلاحية لتعطيل التشكيلات بغير وجه حق، وأبقاها في أدراج قصر بعبدا منذ أكثر من ثلاث سنوات، برغم أنها حصلت على موافقة وزيرة العدل السابقة، وأقرها مجلس القضاء الأعلى ومن ثمَّ أكد قراره مرتين وبالإجماع، ما جعلها غير قابلة لأي تعديل. وتوقيف صدور التشكيلات كان من دون شك بهدف الإبقاء على قضاة محسوبين عليه في مواقع حساسة، ووضع آخرين منهم في أماكن أخرى للاستفادة في تمرير صفقات سياسية أو غير سياسية.
ما نشهده اليوم من هجمة شرسة على هذا القضاء لمناسبة التحقيقات التي تجري حول انفجار مرفأ بيروت؛ هو استكمال لخطوات التعطيل أو وجه آخر لها، ولم يشهد أن حصل مثله في أي مرحلة سابقة، حتى في أيام الحرب الأهلية، وقد راعت المحاكمات التي جرت سابقاً بخلفيات سياسية، ومنها على سبيل المثال ملف انفجار كنيسة سيد النجاة التي اتهم فيها الدكتور سمير جعجع من دون دليل؛ القواعد الشكلية، كما أن "العضومية القضائية" التي اعتمدتها الوصاية السورية في السابق، ركزت على توليف التهم للمعارضين من دون التعرُّض لأشخاص القضاة، خصوصاً منهم الذين كانوا يرفضون الانحراف ولا ينصاعون لتعليمات وزير عدل الوصاية آنذاك عدنان عضوم ولا لرموز النظام الأمني السابق.
ومن المؤكد أن تدمير القضاء في لبنان سيكون بمثابة تدمير للدولة بالكامل، خصوصاً بعد الانهيار الذي حصل في البلاد على المستويات المالية والاقتصادية والصحية والسياسية. ورغم التجارب المريرة التي حصلت في السنوات الخمس الماضية مع القاضية غادة عون وغيرها، بقيَ القضاء ضمانة لإحقاق الحق، ولم يتحوّل الى أداة بيد السلطة السياسية، وتعامل مع الأحداث التي جرت في السنتين المنصرمتين بواقعية، برغم تحامل السلطة على المعارضين لها وعلى رموز الحراك في ملفات جنائية أو مالية أو سياسية. وصمد المجلس العدلي في وجه الضغوط، وأبدى تماسكاً واضحاً، وصدرت بيانات عن نادي القضاة تحاكي الوقائع المطروحة بمعايير قانونية مجرَّدة، وتُنبه من خطورة التمادي في سياسة التعطيل والتدخُل، خصوصاً أن القضاة يعانون من ظروف معيشية صعبة بعدما تدنت قيمة رواتبهم بسبب تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية أمام الدولار الأميركي، وبعضهم شرع في تقديم الاستقالة لهذه الأسباب.
اتهام الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله القضاء بالتعامل بخلفية سياسية مع ملف جريمة تفجير المرفأ، يعتبر تهديداً واضحاً للقضاة، نظراً للمكانة السياسية والأمنية الرفيعة التي يتمتع بها نصرالله. والتهديد موجه خصوصاً إلى المحقق العدلي طارق البيطار الذي خلف سلفه فادي صوان الذي حقق بالملف ذاته، وصوان كان قد تعرَّض للاتهامات ذاتها التي يتعرض لها البيطار اليوم. وبعض المعلومات تتحدث ايضاً عن تهديد تعرَّض له نقيب المحامين السابق ملحم خلف، بعد إثارته قضية المرفأ بقوة ولأن مئات المتضررين وأهالي الضحايا أوكلوه بصفته النقابية الدفاع عن حقوقهم، وكان واضحاً في الشهور الماضية أن خلف انكفأ عن المتابعة بعد حماسة إعلامية واضحة، وأعلن إضراباً غير مبرر للمحامين استمرَّ ما يقارب 5 أشهر لأسباب بسيطة، ولكن الإضراب كان بمثابة الحجة للإحجام عن متابعة الملف قضائياً، وهو سبَّب تعطيل مرفق العدلية التي كانت في أوج جهدها بحثاً عن الحقيقة في ملف تفجير المرفأ.
لم تكتفِ الجهات المتضررة من كشف حقيقة ما جرى في المرفأ بالتهديد فقط، بل أن ضحايا وقعوا في هذا السياق لعلاقتهم بالملف، ومنهم العقيد جوزف سكاف والعقيد منير أبو رجيلي والمصور جو بجاني والناشط لقمان سليم. ذلك كله يخفي أهمية الملف بالنسبة إلى الجهات المتهمة. وتتساءل أوساط متابعة باستغراب عن كيفية حصول هذه الجهات على المعلومات التي تضمنتها التحقيقات الأولية وهي لا تزال سرّية، ولماذا استنفرت هذه القوى بكل عزمها لمهاجمة المحقق العدلي رغم أنه لم يستدعِ أياً من مسؤوليها بعد.
المخفي في محنة القضاء أكثر بكثير من المُعلن، وهذا الأمر ينطبق أيضاً على ملف تفجير المرفأ وما يدور حوله من شبهات، وهو ما تؤكده واقعة تعطيل عمل الحكومة على هذه الخلفية، ولا تعتقد الأوساط المتابعة أن الخلاف على تفسير صلاحية المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء هو بيت القصيد، لأنهم لم يقدموا على مباشرة المحاكمة أمامه كما تمَّ الاتفاق بين رئيس مجلس النواب نبيه بري والبطريرك بشارة الراعي؛ وحينها يُحرج القاضي بيطار لأن القاعدة المتعارف عليها في القانون تمنع طرح ملف قضائي أمام جهتين في الوقت ذاته، والأولَى بمحاكمة الرؤساء والوزراء هو المجلس الأعلى بطبيعة الحال، لكن هذا المجلس لا يمكنه تجاهل المعطيات المتوافرة لدى القاضي البيطار، وبالتالي؛ فإن الغاء التحقيق برمته هو الطريق الفضلى بالنسبة إلى المتضررين منه.
كلام كثير يمكن أن يُقَال عن الملف، لكن الواضح أن القضاء اللبناني يواجه محنة غير مسبوقة، والضغوط عليه ستزداد، ودائماً كان خلف القضايا السياسية الكبرى في لبنان ملفات جنائية كبرى، ومنها تفجيرات واغتيالات.