أن تكتب عن ذاكرة الحرب لمناسبة ذكرى مرور47 عاماً على 13 نيسان، التاريخ الذي حُفر في ذهننا مرتبطاً بحادثة البوسطة، بوسطة عين الرمانة. إنه تاريخ انطلاق عداد الأوجاع اللبنانية، التي لم تتوقف، منذ ذلك الحين مع زمن مواسم العذابات. زمن تظلّ تحوم حوله أسئلة من نوع: ماذا لو؟ ولماذا؟ وهل كان مقدّراً أن تتحول تلك الحادثة إلى صاعق تفجير حرب أهلية؟ أم هل لو تصرّف الأفرقاء والمسؤولون حينها بشكل مختلف لأمكن تفادي الحرب؟ أو أو...
تعرضنا مؤخّراً لحادثة كان يُمكن أن تكون مشابهة لتلك، لو أنّ ظروفاً مؤاتية لانطلاق وتجديد حرب أهليّة ثانية توافرت، ولكنّا أطلقنا عليها اسم "أحداث الطيونة". لكن الفتنة لُجمت هذه المرة بقدرة قادر، ومُنعت حرب جديدة من الانفجار، ممّا قد يعني أن ما نعتبرها "حربنا الأهليّة" ربما لم تكن أهليّة بالكامل، بل إقليميّة أيضاً، ودوليّة أيضاً وأيضاً.
لطالما رغبنا وحلمنا، بعض الأصدقاء البحّاثة، بمشاريع للعمل على الذاكرة الشفهيّة كي نفهم، وكي نستوعب، وكي نتصالح مع تاريخنا الذي لا يمضي من أجل أن نتخطّاه ونبدأ من جديد، وكي نعرف كيف عاش أناس تلك المرحلة الأحداث، وماذا بقي منها في ذاكرتهم، وكيف يستعيدونها؟ وهل ذاكراتهم متشابهة؟ متقاطعة؟ أم متعارضة؟
في كلّ الأحوال، قد توضح روايتها وجمعها الصورة قليلاً، ممّا قد يسهم بدمل بعض الجروح، وتخفيف عذابات من لا يزالون يعانون حتى الآن عواقب تلك الحرب. ولجنة أهالي المفقودين دليل حيّ عليها.
لم ننجح بإطلاق بحثٍ، ولا بتشكيل فريق، ولا بجلب تمويل لما كنّا ننويه من مشاريع لتجميع حكايات الناس في سنيّ الحرب الأهلية، التي نحتفل بذاكرتها كلّ عام في 13 نيسان، عنوان وتاريخ انطلاق العنف ذي الوجه العسكريّ الميليشياويّ. لكن يبدو أن لقمان سليم في ذلك الوقت، الذي لم أكن أعرفه فيه، كان يفكّر مثلنا.
وعندما تعرّفت إليه، بشكل متأخّر، وعرفت أنّه في مرحلة التفكير الجدّي بتنفيذ مشاريعه في التأريخ لتلك المرحلة اطمأننت إلى أن المشروع بأيدٍ أمينة.
يعرض لقمان في الكتيب الذي عنونه "الباص إن حكى" مشروع "أمم للتوثيق والأبحاث" الذي يُعنى بتاريخ لبنان وبنزاعاته وبالذكريات الفرديّة والجماعيّة من أجل العمل على توثيق كلّ ما يتعلّق بها من نشاطات فنية وثقافية، إضافة إلى تسجيل الشهادات بالصوت والصورة. لكن كان هناك من هو متضرّر من وجود لقمان سليم ومشاريعه الكثيرة.
ذهب المشروع الذي يشكّل حاجة ماسّة للبنان واللبنانيين، لأنه عمل تأسيسيّ، وتوسيعه قد يشكّل أفضل مدخل لمصالحتهم مع تاريخهم كجماعات لا تعرف أن تتحوّل إلى مواطنين في وطن؛ لأنّ بناء وطن حقيقيّ ودولة حرّة، سيّدة، ومستقلّة ليس من مصلحة من يختارونهم للقيادة. فمع انتهاء الحرب الأهلية وإصدار قانون "العفو عمّا مضى"، وتحكيم أمراء الحرب بمقاليد السّلطة السياسيّة، وجعلهم أمراء السلم الأهليّ الفاتر أو السّالب، ظنّوا أنّهم انتهوا من تلك المرحلة ومفاعيلها.
لكن يتبيّن كلّ يوم للّبنانيين أن أمراء الحرب أصبحوا مستبدّي السّلم ولا ينجحون، ربّما لأنهم لا يرغبون ولا يريدون لملمة الجراح والعمل على بناء قواعد تؤسّس لسلم أهليّ حقيقيّ. وهم يُمارسون يوميّاً تأجيج الصراعات المذهبية والطائفية كي يتسنى لهم الإمساك بمقاليد السّلطة السياسية. ونشهد يوميّاً أنّهم لم يخرجوا من دائرة النزاع سوى على المستوى العسكري، الذي ما يزال في خلفيّة المشهد على شكل سلاح، كان مقاوماً في زمن مضى، لكنّه تحوّل الآن إلى حارس لوضع اللاسلم – واللاحرب، وفزّاعة وأداة تتحكّم برقاب اللبنانيين وبمصير لبنان ككلّ.
اللبناني في زمن "السلم الأهلي والاستقرار"، وبعد مرور 47 عاماً على حادثة بوسطة عين الرمانة، يتمنّى الموت كبديل عن الحياة التي يعيشها. في العدد الخاصّ عن اللجوء، الذي أصدرته النهار، الكثير من حكايات الهجرة واللجوء، جمع معظمها من انتشار اللجوء العربي في أنحاء الكرة، نقلت حكايات حنين "دولوكس"، إذا أمكن القول. لكن اللجوء الموجع هو ذلك الذي تعرّضت له الأسر اللبنانية في وطنها بسبب الإفقار الذي أذلّها وأفقدها كلّ مقوّمات العيش، لأن مَن يحكمون البلد سرقوا مقدّرات مواطنيه، ولا يزالون يمعنون في سرقتهم.
"نحن مضطهدون، انتخبناهم وسلّمناهم مقاليد السلطة، فخذلونا وأفقرونا وأمرضونا، وتركوا أولادنا من دون مستقبل. ولكنهم لا يكتفون بذلك". هكذا بادرني البائع، الذي يقرأ مقالاتي، في السوبرماركت. "يريدون الاستمرار في اضطهادنا. وضعنا أصعب ممّا كان أيّام الحرب. حينها لم نكن محتاجين. كان وضعنا جيّداً عموماً، ولم نكن محتاجين. ولو تعرّضنا للقصف كنا نموت وينتهي الامر".
ربما سيعي الحكّام العرب الآن أن لبنان باب السلم وباب الحرب للعوالم العربية. بعد هزيمة العام 1967 استسهلوا التضحية بلبنان. أوكلوا إلى أصغر بلد عربي تحمّل عبء مقاومة ومحاربة إسرائيل. ألزموا لبنان باتفاق القاهرة منذ العام 1969، بتواطؤ لبنانيّ من دون شكّ، استناداً إلى انقسام لبنانيّ تاريخيّ ذي وجه طائفيّ، ثمّ استسهلوا الانسحاب من المشاركة في قوات الردع العربية، وأوكلوا إلى الذئب السوري وأزلامه "الواوية" اللبنانيين الأغنامَ اللبنانية منذ العام 1975.
لزّموه لبنان أيضاً مرّة ثانية بعد الحرب الإسرائيلية واحتلالها لبنان وانسحابها إلى الشريط الحدودي في العام 87، بسبب مقاومة الوطنيين اللبنانيين لها. ومرّة ثالثة، بمناسبة اتفاق الطائف، في مطلع التسعينيّات. طوال هذا الوقت كانت الأنظمة العربية تتخلّص من مختلف التحدّيات التي تواجهها، من القضية الفلسطينية إلى احتلال الكويت، برميها على لبنان بكفالة النظام السوريّ، الذي كان يبني تحالفه مع النظام الإيراني، ويتساعدان على وضع أيديهما على لبنان.
النتيجة تفخيخ المنطقة العربية بأجمعها عبر تمكين حزب الله من وضع يده على لبنان، وتبجّح قاسم سليماني بأنّ لديه 74 نائباً "مقاوماً" في البرلمان اللبناني.
بنت إيران خلال كلّ هذا الوقت، وعلى مهلٍ، قدراتها النووية إلى جانب قاعدة بشرية وأمنية – عسكرية، ترتكز عليها لتنطلق منها، فتنشر قواعدها في مختلف الدول العربية، التي تتواجد فيها مجموعات موالية لها.
وبهذا، يكون النظام العربي قد سلّم طوعاً أمنه واستقراره إلى النظام الإسلامي الإيراني بواسطة نظام الأسد، الذي سيشكّل تحدّياً أكبر ممّا فعلت إسرائيل نفسها.
ولبنان الحالي، المحرّر من إسرائيل ومن سوريا، وتحت قيادة حزب الله بإشراف من الحرس الثوري وقائده الخامنئي، في وضع أسوأ ممّا كان عليه في الذكرى البائسة لـ13 نيسان في العام 1975.
فإلى أين؟