الحلّ هو بإلغاء السرّية المصرفية أو اقتلاع الفساد من جذوره

محمد فحيلي 
 
قانون السرية المصرفية هو بمثابة امتيازات مصرفية أو حق ممنوح للمصرفيين بموجب القانون. فهذا يعني ببساطة أن السلطات، بما فيها المحاكم، لا يمكن أن تجبر المصرفي على الكشف عن هويّة صاحب الحساب أو حجم رصيد حسابه أو حساباته و/أو حركتها! هذا الامتياز يختلف عن منطق ومفهوم السرية الوظيفية. ومن موجبات الحفاظ على العمل المصرفي محاربة قانون السرية المصرفية وإبطاله لأن هذا القانون وجد لتحصين الفاسد والمرتكب من الملاحقة القانونية وكلف الجهاز المصرفي بكل مكوّناته بإخفاء هويّة المرتكب وعدم الإبلاغ عنه، وإن لم يفعل يساءل ويحاكم بموجب هذا القانون ذاته!
 
 
يؤدّي القطاع المصرفي دوراً أساسياً في الاقتصاد الوطني حيث إن المصارف مهيمنة على النظام المالي للبلاد، باعتبارها المموّل الأكبر، وقد يكون الأوحد، للأفراد والمؤسسات والعجز في المالية العامة. يخضع النشاط المصرفي بمجمله لقانون التجارة ولقانون النقد والتسليف، وقانون السرّية المصرفية، وفي الوقت الذي كان فيه مصرف لبنان يتحصّن بهذه القوانين لإصدار التعميم تلو الآخر لإدارة الأزمة المالية-النقدية، كانت المصارف التجارية تضرب عرض الحائط بكل القوانين وتفرض ضوابط على السحوبات (نقداً و/أو تحويلاً إلى الخارج) من الحسابات المكوّنة بالعملة الأجنبية، وفي الوقت ذاته تسارع إلى الامتثال لأحكام تعاميم السلطة النقدية وقانون السرية المصرفية. ولم يكن إلّا تفسير واحد لهذه الانتقائية بالالتزام: تجد المصارف حصانة وخلاصاً في تعاميم مصرف لبنان وفي السرية المصرفية!
 
السرّية المصرفية ليست إلا النسخة المشيطنة من أدبيات السرية الوظيفية والمهنية ولذلك لم يكن وجودها عنصراً إيجابياً أو قيمة مضافة في معركة لبنان ضد الفساد. دعنا نبدأ من السرية الوظيفية. يقـوم الموظـف عنـد مباشـرته لمهـام وظيفتـه بالإطـلاع علـى كثيـر مـن المعلومـات والوثائـق والبيانـات التـي فـي حوزتـه، والتـي يكـون مـن المصلحـة أن لا يعلـم بهـا إلا مـن يؤتمـن عليهــا، ويختلــف مضمــون الأســرار الوظيفيــة مــن إدارة إلــى أخــرى، بــل إن الســر الإداري يختلــف بوجــه عــام عــن الأســرار الحكوميــة التــي تهــم الدولــة ككل ويختلــف عــن الأســرار الخاصــة بالأفــراد. ويشــمل الســر الإداري كل مــا يتعلــق بعمــل الإدارة الســرّي، وهناك أمثال عديدة على ذلك وأذكر بعضها لا للحصر. هناك حماية المصادر أو ما تسمّى أحيانًا مبدأ سرية المصادر أو إمتيازات المراسل هي حق ممنوح للصحافيين بموجب القانون الدولي. فهذا يعني ببساطة أن السلطات، بما فيها المحاكم، لا يمكن أن تجبر الصحافي على الكشف عن الهوية المجهولة لمصدر الخبر. والمحامون في كثير من الأحيان مطالبون من جانب القانون بالحفاظ على سرية أي شيء متعلق بتمثيل عميل. وأيضاً تطبق السرية المهنية على المحادثات بين الأطباء والمرضى. وتمنع الحماية القانونية الأطباء من الكشف عن بعض المناقشات مع المرضى وحتى تحت القسم في المحكمة. ولكن تبقى السرية المصرفية حديث البلد وهي نظام قانوني مصرفي يسمح للمصارف بالحفاظ على سرية المعلومات الخاصة بعملائهم بعدة طرق. الفرق هو أنه كان هناك سوء فهم، وإجتهادات كثيرة ومتشعبة في تفسير وقوننة السرية الوظيفية في العمل المصرفي وذهبت في معظم الأحيان إلى حسن الاستغلال وسوء التوظيف.
 
لهذا يجــب ممارســة شـيء مـن الرقابـة علـى هـذه السـرية حتـى لا تُسـتخدم فـي غيـر الغـرض الـذي تقـرر مـن أجلـه. هناك العديد من الاستثناءات. هناك استثناءات لحالات يكون المحامي لديه سبب للاعتقاد بأن موكله قتل أو سبب إصابة خطيرة لشخص ما، ما قد يسبب إصابات كبيرة لمصلحة مالية أو ممتلكات آخرين، أو يستخدم (أو يسعى إلى استخدام) خدمات المحامي لارتكاب جريمة أو النصب والاحتيال. والعديد من الدول تطالب الأطباء بإبلاغ الشرطة عن حالات إصابات بالأعيرة النارية، وإبلاغ إدارة السيارات عن السائقين الضعفاء. وتواجه السرية أيضاً تحدّياً في الحالات التي تنطوي على تشخيص الأمراض التي تنتقل بالاتصال الجنسي في المريض الذي يرفض الكشف عن التشخيص لأحد الزوجين، وإنهاء الحمل في المريض دون السن القانونية، دون علم والدي المريض. ولماذا الاستغراب إن كان من المتوقع من المصرفي التعاون مع السلطات والإبلاغ عن أي عميل عليه شبهات لجهة احتمال تهرب ضريبي، تبييض أموال، أو تمويل الإرهاب أو غيره.
قانون السرية المصرفية المعمول به في سويسرا من سنة 1934 وفي لبنان من سنة 1956 يختلف جداً عن السرية الوظيفية التي يجب الحفاظ عليها لأنها من ضروريات المهنة وأدبياتها.
 
هذا الامتياز الذي أعطي للمصرفيين بموجب أحكام قانون السرية المصرفية يدفعنا باتجاه الشك في إيجابيات هذا القانون، ولهذا يكون قانون السرية المصرفية قد وجد لتحصين الفاسد والمرتكب من الملاحقة القانونية وكلف الجهاز المصرفي بكل مكوناته بإخفاء هوية المرتكب وعدم الإبلاغ عنه، وإن لم يفعل يساءل ويحاكم بموجب هذا القانون – أي قانون السرية المصرفية. وإن كان الهدف من أي تغيير في هذا الإطار هو محاربة الفساد، فإن ما يجب على السلطة السياسية – تشريعية وتنفيذية – عمله هو التركيز على تمكين وتفعيل عمل الجهات الرقابية وليس إصدار قوانين إضافية لا تكون بجوهرها إلا إعادة صياغة للقانون المعمول به حالياً. هذا ما أنتجه وتباهى بإنجازه المجلس النيابي اللبناني باجتماعه التشريعي الأول لمجلس الـ2022 الجديد. إدراج تعديلات على قانون السرية المصرفية الذي يعود لتاريخ 1956 وبذلك يكون قد قدم للفاسد، من دون الغوص بالتفاصيل، صياغة مستحدثة وثغرات قانونية متجددة توضع بتصرف الفاسد لتحصينه في مواجهة القانون أو القوانين التي قد تستخدم لمحاسبته.
جاءت هذه التعديلات على حساب تفعيل الأجهزة الرقابية التي تحد من الارتكابات الفاسدة. أكبر دلالة على نهج السلطة السياسية في اتخاذ القرارات هو التحقيق العدلي في جريمة 4 آب 2020. كل ما أنجز حتى اليوم هو "حركة من دون بركة". كل ما استخدمه المتهمون لإعاقة التحقيق والمحاسبة هو قانوني ودستوري ولا غبار على ذلك. وهذا يؤكد أن هذه القوانين وُجدت لتحصين الفاسد ويجب إلغاؤها.
 
من الخطأ الادعاء أن السرية المصرفية تسهم في استقطاب المال النظيف لأن رأس المال النظيف يسعى وراء الاستثمارات المربحة، والمال القذر يسعى وراء ما يوفره من حصانة قانون السرية المصرفية لتلميع صورتة وتبييض أمواله فقط.
 
التـزام الموظـف بالسـر الإداري واجب وراجـع إلـى المكانـة التـي يشـغلها فـي خدمـة المؤسسة (الدولة)، وينطبق علـى كافـة الموظفيـن بسـائر درجـات السـلم الوظيفـي مـن رأس الهرم إلـى أصغـر الموظفين. ولكن هذا لا يعفيهم من واجباتهم الأخلاقية في الإبلاغ عن الجرائم والمجرمين! إلغاء السرية المصرفية أو اقتلاع الفساد من جذوره هو الممر الإلزامي للمسار الإصلاحي والتعافي الاقتصادي في لبنان.
 
 
*خبير المخاطر المصرفية والباحث في الاقتصاد