المئوية السعودية الثالثة... ثلاثية العلم والأمن والتنمية

د. خالد محمد باطرفي

سئُل ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، عام 2018، عن تصريحات الرئيس الأميركي الأسبق، دونالد ترامب، التي يدّعي فيها أن مظلته الأمنية هي ما يضمن بقاء العرش السعودي، فرد الأمير على القناة الأميركية بما مقتضاه، أن عمر دولته، التي تأسست في الدرعية عام 1727 على يد الإمام محمد بن سعود، أطول من عمر الولايات المتحدة الأميركية، التي أعلنت استقلالها عام 1776 بنصف قرن. وفي تاريخها الطويل، عبر ثلاثة قرون، اعتمدت على الله سبحانه وتعالى، ثم على شعبها للدفاع عن نفسها وحماية مقدساتها ومنجزاتها.

شراكة لا وصاية
والرسالة هنا، أن الرياض تقدر إسهامات حلفائها وشركائها في التنمية والأمن والسلام، ولكنها ترفض التعالى والمنة. فهي تشتري احتياجاتها الدفاعية نقداً، وتبادلهم التعاون في إرساء الأمن ومحاربة الإرهاب وداعميه. وتستفيد منهم وتفيدهم في شراكاتها التجارية والتنموية والسياسية. 

وبالتالي، لا يحق لأي منهم أن يدّعي أن له ديناً أو حقاً لم يستوفه. والتعاون المثمر بين الشركاء لا يمنح أي طرف الحق في التدخل بشئون الآخر أو فرض الوصاية عليه. 

ولعل في الاحتفال السنوي بيوم التأسيس، في 22 فبراير، تذكيراً للمواطن بعلو هامة بلاده، ولغيرها بحقيقة قدرتها على الاستمرار والصمود في وجه الأعاصير والخصوم. فقد نهضت دولة آل سعود بعد سقوط الدرعية في 1818 على يد الجنرال ابراهيم باشا، الابن الأكبر لوالي العثمانيين على مصر، محمد علي باشا، بعودة الإمام تركي بن عبد الله بن محمد عام 1824 قادماً من الرياض، إثر انسحاب الجيش المصري العثماني. وبعد إعادة تعميرها وإحياء العلوم العربية والشرعية فيها، نقل عاصمة "الدولة السعودية الثانية" الى الرياض. 

الدولة السعودية الثالثة
 بعد انتكاسة ثانية، باستيلاء أمير جبل شمر، الأمير محمد بن عبد الله بن رشيد، على نجد، وعلى العاصمة السعودية، نهضت الدولة السعودية مرة أخرى بعد استعادة أميرها عبدالعزيز، ابن إمامها عبد الرحمن، وحفيد إمامها فيصل بن تركي، لعاصمة ملك آبائه وأجداده، الرياض عام 1902. 

كانت كما سمّاها المؤرخ أحمد عسة "معجزة فوق الرمال"، تحققت على أيدي مجموعة من ستين رجلاً، تسلقوا أسوارها ليلة عيد، ليزيحوا حاكمها المعيّن من ابن الرشيد المتحالف مع العثمانيين. ويعلنوا، من قصر المصمك، أن الملك لله ثم لعبد العزيز.

 بدأت بذلك الدولة السعودية الثالثة، واستكمل مؤسسها توحيد مناطقها وإماراتها، خلال ثلاثة عقود، حتى أعلن في 22 سبتمبر من عام 1932 ، قيام "المملكة العربية السعودية". واعتمد هذا التاريخ ليكون "اليوم الوطني" (غير "يوم التأسيس") ويُحتفل به كل عام. 

 تحققت المعجزة في كل مرة رغماً عن الإمبراطوريات الداعمة لخصوم الدولة، والمحاربة لها سراً وعلناً، والمحرضة على وجودها ورسالتها وقيادتها. ودولة بهذه القوة، وشعب بهذه الإرادة، وعرش بهذا العزم والحزم، ليسوا بحاجة لواشنطن ولا لغيرها من امبراطوريات اليوم لتدافع عن رسالتها ورايتها، ولتحافظ على حقها في الوجود والنماء والأمن.

قدر العرب حمل الرسالة
قلت لطلابي بجامعة الفيصل، في احتفالية يوم التأسيس، إن دولتكم قامت لخدمة رسالة ومنارة. فقدر الجزيرة العربية، وهي أرض قاحلة، بلا زرع ولا ضرع، أن يكون ناتجها الأعظم رسالة سماوية يحملها أبناؤها الى أمم الأرض، ويستخلفهم به المولى على ثلاث قارات، وخلافة تمتد من سور الصين الى أسوار باريس، ومن المحيط الهندي الى المحيط الأطلسي، ومن صقلية الى أدغال أفريقيا. 

دعوة التجديد 
وعندما انحسرت هذه الرسالة، وتراجع حملتها في القرون الأخيرة، وخضعت شعوبها للمستعمرين، شاع الجهل والضلال، وخرجت دعوة التجديد من الدرعية، فوحّدت جزيرة العرب، وأضاءت مناراتها ومنائرها، واستعادت للحرمين الشريفين مكانتهما على خريطة العلم والتعليم. 

واليوم، يخرج أبناؤنا من مقاعد الدرس ليحققوا الانتصارات في المسابقات العلمية، وينافسوا في الجامعات والمعاهد الشرقية والغربية، ويشاركوا في المخترعات والابتكارات لخدمة البشرية. ثم، كأنما لم تكفهم الأرض بما رحبت، ليرتادوا السماء ويشاركوا العلماء في المحطة الفضائية الدولية. 

المرأة العالمة
 وللمرأة في تاريخنا دور عظيم. فحرم الإمام محمد بن سعود، طالبة العلم، موضي بنت سلطان أبو وهطان الكثيري، هي من أشارت عليه باستضافة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ليعلّم أبناء الدرعية. وهو الذي عاد للتوّ من رحلته لطلب العلم ومناظرة العلماء في مكة المكرمة والمدينة المنورة والأحساء والبصرة والزبير، ونشر كتاب التوحيد، ملخصاً رأيه وموقفه تجاه الكهنة والقبوريين وحرّاس المقامات، ومذكراً بوحدانية الخالق الذي لا شريك له ولا وسيط بينه وبين خلقه. 

كذلك كان لحفيدة الملوك، وأخت الملك، نورة بنت عبدالرحمن، وهي طالبة علم، و"طلّابة مُلك"، دور مؤثر وحاسم وحازم، في تحفيز شقيقها عبد العزيز على مواصلة القتال في سبيل استعادة ملك آبائه وأجداده. لم تنس كيف خرجت معه ذات فجر حزين على ظهر راحلة من بوابة سور الرياض، يتلفتان نحو دورها، ويتساءلان عن عودة قد يجود بها الزمان أو لا يجود. ولا كيف قضيا سنوات الطفولة والصبا مع والدهما وأسرتهما تخفياً بين كثبان الربع الخالي، وبين قطر والبحرين والكويت، تتبعهم عيون الخصوم، وتترصّدهم عساكر ابن الرشيد والترك في نجد والأحساء. ولم تفت عليهما في السنوات العشر التي قضتها الأسرة في رحلة الاغتراب، دروس العلم والدين على يد الإمام عبد الرحمن والعلماء والمدرسين المرافقين، ثم حيث استقر بهم الرحيل، في الكويت.

قوافل العلم
ولما استعاد ابن العشرين، عبدالعزيز، عاصمة آل سعود، عام 1902، كان أول ما فعل أن احيا بيوت العلم، من كتاتيب وحلقات قرآنية فيها وفي كل المناطق التي استعادها في رحلة التوحيد وإعادة تأسيس الدولة على مدى ثلاثة عقود. كما حرص على دعم المدارس القائمة في الحجاز، وأشهرها مدارس الفلاح والصولتية والرحمانية والرشدية، وبناء المزيد، كالمعهد العلمي السعودي، ومدرسة تحضير البعثات. وابتعث خرّيجيها لمواصلة تعليمهم في بومباي والقاهرة وبيروت ولندن. فعادوا وأنشأوا المزيد من دور العلم والتعليم العصرية. 

ومن بينهم اختار رجالات دولته الناشئة، وتوزعت البقية في حواضر البلاد وبواديها، ينشرون المعارف، ويستثمرون الموارد، ويشاركون في مسيرة التنمية، لينقلوا بلادهم الى عصر جديد. 

معلمة البنات، عفت الثنيان
وعادت المرأة السعودية لتسهم في مسيرة التعليم، فكان لزوجة الملك فيصل، الأميرة عفت الثنيان، دور محوري في تعليم البنات. فأنشأت مدارس دار الحنان في مدينة جدة على حسابها، وأشرفت بنفسها على اختيار المعلمات والمشرفات، كما فعلت من قبل في الطائف بإنشاء المدرسة النموذجية للأبناء، وفصول البنات في بيتها. ثم شاركت مع الملك رؤيته لإنشاء مدارس البنات في كل أرجاء البلاد، رغم المعارضة من جماعات متشددة. وكانت وصيتها الأخيرة، التي عاشت لتشهد تحقيقها، إنشاء جامعة عفت للبنات. 

وفي يوم الاحتفال بذكرى التأسيس، استعدت وطلابي وزملائي، سعوديين وعرباً، حقيقة ارتباط تاريخ بلادنا، وجزيرتنا العربية، وتراثنا العربي، بالعلم والتعليم، وحقيقة أن الدعوة التجديدية التي انطلقت من نجد، كغيرها من الدعوات التي سبقت للرسل والعلماء والدعاة، لم تكن خاصة بهذه الديار فحسب، بل بلغت مشارق الدنيا ومغاربها. فهذا هو قدر العرب، وهذا هو قدر بلاد الحرمين، ومهد الرسالات، ومنارات العلوم. 
 
* أستاذ بجامعة الفيصل