بلاد الطوابير... و"المتطوبرين"!

توفيق الصايغ
 
الزمان: صباح يومٍ صيفيٍّ حارّ وقد مضى 2021 عامًا على ولادة السَّيد المسيح القائل "وَتَعْرِفُونَ الْحَقَّ، وَالْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ". وبعد 1442 عامًا على هجرة رسول الله محمد الذي قال "إنما بُعِثتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ الأخْلاقِ". المكان: لبنان، على الطريق العام، قرب محطة الوقود- ضمن طابور طويل... من السيارات. وعليه فإن ما سيرد في هذا المقال هو بُنات أفكار أنتجها هذا الزمكان الاستثنائي. وللعلم عزيزي القارئ أننا، في طائفة الموحدين الدروز، لسنا كلنا مشايخ عقلٍ، بعضنا مجنون وإنني من هذا البعض! ولو أني كنت سنيًا أو شيعيًا أو مسيحيًا ما كنت أصلح لأن أكون مفتيًا ولا بطركًا؛ فليس عندي "خطٌ أحمر" إلا الحقّ ومكارم الأخلاق! فاقتضى التوضيح.

خلال فترة انتظاري، كانت الإذاعات اللبنانية تنقل ما يقدمه المسرح السياسي في لبنان من نسخة كربونية لمسرحية "في انتظار غودو" (Waiting for Godot) للكاتب (صامويل بيكيت) وتدور أحداثها حول رجلين يدعيان "فلاديمير" و"استراغون" ينتظران شخصًا لينقذهم، يدعى "غودو" لا يصل أبداً. وفي أثناء انتظارهما، ينخرطان في مجموعة متنوعة من الحوارات والنقاشات. وهي مسرحية عميقة في طرحها وملهمة في أفكارها. أما النسخة اللبنانية/الكربونية من المسرحية فهي تدور حول عدة "مسؤولين"، من طوائف مختلفة، ينتظرون تسويات خارجية تأتي لهم بالمكاسب والمنافع الشخصية، وتنقذهم من فساد ظلوا يمارسونه حتى انفجر في وجههم. وفي أثناء انتظارهم يحاولون تشكيل حكومة وينخرطون في مجموعة مشاكل تحت عنوان "حقوق الطائفة"، فيهدر دم بريء هنا وهناك كرمى لعيون زعيم هنا وهناك والجمهور في كل مكان يواصل التصفيق، ولولا جهلهم لما صفقوا، وأوقفوا المسرحية وطردوا الممثلين! حقًّا الجهل كارثة مزدوجة!

هل حقًا تجهل (نجهل، يجهلون) الجماهير اللبنانية الحقيقة؟ يقول محمد حسنين هيكل، المفكر العربي: "على الحقيقة أن تنتظر حتى تنجلي الغمة عن ذاكرة الأمة، فالقوى التي تهيمن على الأرض ومواردها، وعلى الاقتصاد وآلياته وعلى القرار وسلطته، كان لا بد من أن تمد سيطرتها في الوقت نفسه إلى الذاكرة، لأنها مجمع الحكمة ومستودع الضمير، وهنا تكمن إرادة الأمة". إذًا حتى تنكشف لنا الحقيقة (حقيقتهم، حقيقتنا) علينا أن نزيل عن ذاكرتنا الغمة الطائفية ونسأل ما هو المسار الذي سلكناه حتى وصلنا إلى بئس المصير حيث جهنم، على حدّ قول صاحب الفخامة القوي جدًا جدًا (ميشال عون)! يا لها من بلادٍ صنعتها الطوابير، هكذا يقول تاريخها (تاريخنا، تاريخكم). بداية من طابور ذَهَبَ إلى باريس وعاد بخريطة هجينة ترسم معالم نظام بلا شعب! فأبناء "الشانزيليزيه" آنذاك يعرفون عن قيام إسرائيل ما كان يجهله "أبناء وطن الأرز". وبعد قيام إسرائيل وبداعي مقاومتها انشأت منظمة حتف (حركة تحرير فلسطين) التي عرفت بـ"فتح" وتزعمها "ياسر عرفات" والتي لجأت فيما بعد إلى لبنان متخذة من عاصمته مقرًا لها بعدما طردتهم الأردن، وراحوا يحاولون استدراج إسرائيل وأميركا للتفاوض بشتى الوسائل (السلمية عبر فتح قنوات سرية للتفاوض وحربية عبر القيام بعمليات عسكرية ضد الإسرائيليين في كل أنحاء العالم) معتبرين لبنان ورقة في أيديهم يفاوضون بها. خلال تلك الفترة وقف طابور من اللبنانيين يدعم تنظيم "عرفات" لينصر القضية الفلسطينية ويحقق مكاسب في النظام السياسي، ووقف في وجه هذا الطابور طابور آخر يرفض التخلي عن مكاسبه من النظام السياسي وآثر مضطرًا لتطبيق مقولة بيير الجميل: "الاستعانة بالشيطان" وطلب المساعدة من إسرائيل. وفي ظل صراع طبقي كانت تعيشه البلاد اختفى لصالح صراع مذهبي-قبلي وسال دم كثير ودم بريء هنا وهناك كرمى لعيون "عرفات" و"بيريز" و"بيجين". ثم كان الدخول العسكري السوري بموافقة عربية- أميركية وإذن من إسرائيل. وتبين لاحقًا أن لبنان أصبح في قلب الصراع على الشرق الأوسط وليس كما توهم البعض أنه "سويسرا الشرق المحايدة"!

وظل الشريان اللبناني مفتوحًا للنزف حتى بات مشهد الدم يعكر صفو الطوابير العربية التي كانت تجهز نفسها لركوب قطار "السلام العربي-الإسرائيلي"؛ وعليه يقتضي أن يتم إنهاء "الحرب اللبنانية" وكانت مدينة الطائف السعوديه هي القبلة التي حجت إليها الطوابير اللبنانية المتناحرة لعقد اتفاق على إنهاء الحرب وترسيخ نظام سياسي جديد للبلاد انتقل بموجبه زعماء الحرب والميليشيات من ميادين القتال إلى الميدان السياسي وجنة الحكم، وتمديد فترة الوجود العسكري السوري وظل الحاكم الفعلي للبلاد وظلت طوابير الحجاج اللبنانية تتقاطر من بيروت إلى عنجر تتوسل الصدقات وتتلقى الأوامر! إلى أن حصل اغتيال رئيس الوزراء الشهيد رفيق الحريري والذي على إثره خرج الجيش السوري من لبنان، وبقي زعماء الحرب في الحكم من دون ضابط لإيقاعهم، فكان النشاز يدوي في صروح الحكم!

وكان في مقدور أي دارس لطبائع زعماء الحرب الأهلية أن يتنبأ ببئس المصير! فهذه الأحزاب التي اكتسبت جمهورها وقوتها في فترة الحرب لا تملك في زمن السلم ترف الحكمة والديموقراطية ولو أنها ملكتهما لأضاعت سند وجودها. لذلك ولما قامت ثورة 17 تشرين حاربتها وجماهيرها التي ما زالت تصفق لمسرحيتها؛ لأن مقتضيات السلامة النفسية والعملية تفرض عليهم الابتعاد عن حقيقتهم ومحاربة من يبرزها لهم.

كان جواب رسول الله لما سأل عن قوله «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا»، كيف أنصره ظالمًا؟ قال: «تَكُفُّهُ عَنِ الظُّلْمِ؛ فَذَاكَ نَصْرُكَ إِيَّاهُ». ولم يستثن "الأخ الأكبر"! ثم أليس ما فعلوه ثوار 17 تشرين أن طالبوا برفع الظلم؟ فهل أتوا بمنكر؟!

إن حقائق التاريخ لا تدعو للإحباط إنما إلى مراجعة خياراتنا وتوجهاتنا ونحن أمام مشهد سياسي معقد يدفع البعض نتيجة قراءة خاطئة لحقائق التاريخ والواقع ان الاجتماعي أن يتصور وهمًا أن هذا النظام القائم ورموزه يشكلون حماية لأي طائفة أو جماعة أو دين.

يقول سعدالله ونوس: "محكومون بالأمل وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ". ويقول إليزيه روكلو عن بيروت: "قدر هذه المدينة أن تعيش وأن تعود إلى الحياة مهما كان: يمر الغزاة وتبعث المدينة بعدهم".

لنعد إلى الشارع والعود أحمد! وحدها الثورة تحررنا (تحرركم، تحررهم) من ذل الطوابير!