أعجبني رد الأمير فيصل بن فرحان، وزير الخارجية السعودي، رئيس وفد وزراء الخارجية العرب والمسلمين الزائر لواشنطن في محطته السابعة بعد بكين وموسكو والعواصم الأوروبية، على الإعلامي الذي سأله: لماذا لا تقوم الدول العربية بتخفيف العبء عن الفلسطينيين بالسماح بهجرتهم إليها. فقد جاء ردّه أنيقاً وحاداً ومفحماً: العبء تسبّبت به إسرائيل بقصفها لأهل غزة، والحل أن تتوقف عن القصف فيزول العبء.
لمنا حماس على الدخول في معركة بدون خطة، وأثبتت الأيام صحّة ذلك وفداحة نتائجه. واليوم تلوم أميركا إسرائيل على نفس الغلطة. فبعد أن ناشدت نائبة الرئيس الأميركي تل أبيب الحفاظ على سلامة المدنيين، يوجّه وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، توبيخاً علنياً نادراً لحكومة الحرب على غياب استراتيجية واضحة، وتخبّط قراراتها، وعدم واقعية أهدافها. ويرفع الرئيس جو بايدن حدة الاعتراض فيطالب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بتغيير حكومته "الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل" والقبول بمبدأ إقامة الدولة الفلسطينية، محذراً من خسارة تعاطف العالم.
"ملالي" تل أبيب يقودونها الى "محرقة" الرأي العام الدولي بسرعة غير مسبوقة. ومشروعهم للتطهير العرقي، ودفع أهل غزة بالصاروخ والمدفع لاجتياز الحدود المصرية طلباً للجوء، وتصريحهم علناً بأن على البلدان العربية استقبالهم، يواجه فشلاً ذريعاً من كل الاتجاهات. فالقاهرة رفضت رفضاً قاطعاً أن تكون سيناء بديلاً لغزة، والأردن ولبنان أكدا أن أراضيهما لن تكون مخيّماً للجوء الفارين من جحيم الجيش الإسرائيلي.
أما الاتحاد الأوروبي الذي عرض تقديم قروض ومساعدات مليارية لمصر في توقيت مشبوه، فقد اضطر لنفي تأييده التهجير أو ربط الدعم بقبول مصر بالاستضافة. والولايات المتحدة بعد ضغوطها السرية على القاهرة ومحاولتها إقناع العواصم العربية بهذا الحل أو بعضه، اضطرت الى العودة عنه، وإبلاغ إسرائيل بضرورة إنهاء المشروع، وإيقاف الغزو مع نهاية الشهر الحالي. أما الفلسطينيون، وهم الرقم الأهم والأصعب في المعادلة، فقد كان رفضهم مدوّياً، حتى للانتقال الى مناطق أخرى في الضفة أو صحراء النقب.
وحدها حماس من قرر إنشاء فروع دولية لجناحها العسكري، ونقل بعض قياداتها ومقاتليها الى لبنان، تحت مظلة "حزب الله". وهو ما ترفضه جل الأحزاب اللبنانية مستذكرة حالة مشابهة قادت الى الحرب الأهلية وانتهت بإخراج قيادة وقوات منظمة التحرير الفلسطينية بعد الغزو الإسرائيلي عام ١٩٨٢ ونزع سلاح المخيمات الفلسطينية. ورغم الفراغ الرئاسي والحكومي في بيروت، سيقاوم الجيش اللبناني ومعه أصدقاء لبنان العرب والمجتمع الدولي حتماً مثل هذا السيناريو.
إذن ما الحل؟ بتصوري إن عودة حماس للسلطة في غزة، رغم تنازلاتها السياسية الجذرية بالقبول بحل الدولتين، لم تعد ممكنة. فعلاقتها التاريخية مع إسرائيل التي أنشأتها عام ١٩٨٧ ودعمت حكمها في غزة، لشق الصف الفلسطيني ووصم انتفاضة أطفال الحجارة بالإرهاب، والتعذر بوجود طرف يرفض السلام، وصلت الى نهاية الطريق. ولم يعد الراعي الأميركي والداعمون لحماس في المنطقة، بمن فيهم إيران وتركيا، راغبين أو قادرين على تحمّل العبء السياسي لأفعالها. وأقصى ما يمكن أن تحلم به الحركة أن يُسمح لها بالدخول ضمن منظومة السلطة الفلسطينية كحزب أو كقيادات سياسية، تمثّل جمهورها … أو ما بقي منه!
الخيار الثاني، وهو إعادة احتلال غزة، أو أجزاء منها، وبقاء قوات إسرائيلية لـ“ضبط الأمن وحماية الحدود“ مرفوض حتى أوروبياً وأميركياً، خاصة مع حساب التكلفة المالية والبشرية العالي، سواء على إسرائيل أو داعميها. فبعد أن استنزفت دول الناتو خزائنها المالية والعسكرية على أوكرانيا وإسرائيل، ووصلت احتياطاتها لمرحلة الخطر، مع عدم وجود أمل في نهاية قريبة، تزايدت حالة الرفض الشعبي والتشريعي في هذه البلدان، بما فيها الكيان الصهيوني، لصراع طويل الأمد.
ويبقى الخيار الثالث، وهو عودة السلطة الفلسطينية لحكم غزة، بدعم عربي ودولي، وربما وجود أممي لضمان حدود الطرفين، هو الأقرب الى التحقيق. فأميركا باتت رسمياً مع هذا الحل، وكذا أوروبا. والسلطة الفلسطينية أعلنت استعدادها للعودة إذا ضمنت الدعم. والمجتمع الدولي سيجد أن حلاً كهذا أوفر وأضمن وآمن له. أما العرب فسيقبلون بما يقبل به أصحاب القضيّة.
المعارضة المتوقعة لهذا الحل ستأتي من المتشددين في تل أبيب وغزة. فكهنة الكيان الصهيوني سيخسرون مشروعهم العقائدي بضم غزة وطرد العرب منها، ولاحقاً من الضفة. وتجارها سيفقدون موانئ وسواحل وحقول غازها. أما ملالي غزة وموالي العجم وتجار الحروب، ”فسيخرجون من المولد بلا حمّص“. وستتوقف الشيكات والمصالح ويتعرّضون للملاحقة والتصفية في الداخل أو في البلدان التي يلجؤون إليها.
مشكلة فلسطين مثل مشكلة لبنان وسوريا والعراق وليبيا والسودان واليمن. فكل هذه البلدان تحوّلت بفضل فساد وعمالة نخب سياسية واقتصادية وثقافية الى ساحات صراع دولية. فدكاكين الأحزاب والإعلام تحولت الى وكالات سرية وعلنية لأصحاب الطموحات والمطامع والمكائد. وعليه، فلا بد من أن تصل القوى الأجنبية المؤثرة الى قناعة بعدم جدوى الصراع مع ارتفاع كلفته، وخطورة تمدده خارج حدوده المقررة، والوصول الى حل توافقي سينهي النزف ويحافظ على حياة النازف.
الأمل، أن ما وصلت إليه الحال في غزة، والحرائق الدولية المستعرة، والحاجة الملحّة الى إطفائها، سيصل بالمتنافسين في لعبة الأمم الى سيناريو الحل، كسب من كسب وخسر من خسر، شاء من شاء وأبى من أبى.
@kbatarfi