النهار

رمضان... ملتقى الحلول؟
خلال مشاركة زيلنسكي في القمة العربية بالسعودية. (أرشيفية)
A+   A-
هل تتقاطع مشارق الحلّ لعدد من أزمات المنطقة، وربما العالم، في شهر رمضان المبارك؟
عدّني من أقليّة المتفائلين في التراجيديا الكونية التي نعيشها، لأنني أرى ضوءاً في آخر النفق الموحش الطويل. واسمحوا لي بسرد أسبابي قبل أن يتولى المتشائمون تفنيدها وتكسير مجاديفها!

ولأن "الأقربون أولى بالمعروف"، فلنبدأ بمأساة أهلنا في غزة. ثمّ لنعرّج على الحرب الأهلية في اليمن، والأزمة الاقتصادية في مصر، حتى ننتهي إلى الحرب العالمية في أوكرانيا.

لأوّل مرة منذ الحرب العالمية الثانية يشهد العالم جرائم حرب بحجم ما ارتكبه الصهاينة في غزة. والذين لم يقفوا على محرقة الهولوكوست، التي يصرّ اليهود على أنها استهدفتهم وحدهم، فيما النازية لم تستثنِ من أعدائها أحداً، كالشيوعيين والبولنديين وحتى المعاقين من أبنائها، يحضرون اليوم إعادةً لها. وبعكس المحرقة الأولى، هي مخصصة بالفعل لجنس واحد، العرب! وبهدف واحد، التطهير العرقي! ولأسباب عقدية وعنصرية وسياسية محدّدة ومعلنة.

وكما حدث في نهاية الحرب الكونية، فقد استيقظ العالم على بشاعة الفعل والفاعل، وعلى التجرّد التامّ من الإنسانية والأخلاق. وزاد من ذلك غياب المنطق والذكاء السياسيّ. فإذا كان هتلر استهدف أعداءه خلال عشر سنوات، فإن نتيناهو يريد تحقيق هدفه في شهور.

وبالرغم من سطوة الدّعاية النازية والفاشية لقوى المحور، فإن الحقيقة استعصت على الإخفاء والتحوير والتزوير. وهكذا كان فشل ماكينة الدعاية الصهيونية العالمية؛ فقد هوى صرحها الذي أقامته خلال القرن الماضي ومطلع الحالي في أسابيع، وتفوّق الإعلام الجديد، الذي تفلّت من عقال الرقابة والسيطرة الغربية، على أجهزة التلفاز والإذاعة والصحافة التقليدية.

نعم، ما أشبه اليوم بالبارحة، فصهيونية إسرائيل تكشّفت عوراتها على منصّات الرأي العام، وتفكّكت سرديّتها أمام العقل الجمعيّ، وانفضحت حقيقتها أمام الضمير الكوني، وخرج الملايين في أحصن حصونها، الولايات المتحدة وبريطانيا وهولندا، مندّدين بمجزرة غزة ومطالبين بتحرير فلسطين ورافضين للاحتلال الغاصب ووجود إسرائيل. وصوّت الناخبون الإنكليز في الانتخابات النيابية ضد حلفاء تل أبيب في الحزبين، المحافظ والعمالي، ولصالح خصومها. وأظهرت استبيانات الرأي الأميركية والأوروبية موقفاً جماهيرياً مماثلاً. يا له من تحوّل! ويا له من انقلاب!

وبالنتيجة، اضطرت عواصم القرار الغربيّ إلى التباعد عن تل أبيب، وإلى التبرّؤ من أعمالها والضغط العلنيّ للتوقف الفوري للغزو، والخروج الكامل للقوات الإسرائيلية، والتبنّي الصريح للدولة الفلسطينية.

ولأن غباء الحكومة المتطرفة كان يقودها والمنطقة إلى اشتعال سيخرج عن السيطرة ويمتدّ حريقه إلى شهر رمضان ليستفزّ ألفاً وستمئة مليون مسلم في أرجاء المعمورة، منهم جاليات كبيرة ومؤثرة في أميركا وأوروبا، فقد اضطرّ التحالف الغربيّ لتبنّي خطة التهدئة والهدنة الإنسانية الموقته والمحدّدة بأربعين يوماً.

تبدأ الخطّة قبل الشهر الفضيل، وتشمل تبادل أربعين رهينة إسرائيلية من النساء والأطفال والمسنّين والمرضى، معظمهم مدنيّون، وبعضهم عسكريون جرحى، مقابل أربعمئة رهينة وسجين فلسطينيّ، بعضهم محكوم بقضايا دم.

على أن يبدأ خلال الهدنة وبعدها البحث في خروج حماس من غزة، وتتبعها قوات الاحتلال، وتسليم إدارة القطاع وأمنه لحكومة فلسطينية موسّعة، تقودها سلطة رام الله، بمشاركة من جميع الأحزاب والمكونات بمن فيهم الإسلاميون في غزة.

أما البحث في مسار السلام الأوسع وملف التطبيع ومشاركة الدول الخليجية في إعادة الإعمار فيتم بالتوازي وشرط الاقتران. وعلى تل أبيب أن تعلن موافقتها على المبادرة العربية للسلام. وهذا مسار طويل يتطلب مشاركة وإشرافاً أممياً وربما حكومة إسرائيلية جديدة أقلّ تمسّكاً بالنصوص التوراتية المتطرفة، وأكثر انفتاحاً على القوانين الدولية والمسارات المعتدلة.

وفي الملف اليمني، تماسكت الهدنة العسكرية عامين كاملين مع بداية شهر رمضان، واستفادت الأطراف المتصارعة برعاية سعودية ومشاركة عمانية من تقريب المواقف تجاه حلّ سياسي شامل لحرب أهلية بدأت بانقلاب على الحكومة اليمنية في 2014، واستمرت عشرة أعوام حتى اليوم، ودفع ثمنها عشرات آلاف المدنيين من ضحايا الحرب والجوع والمرض، ودمّرت خلالها مؤسّسات الدولة ومنجزات التنمية واللحمة البشرية والتعايش المجتمعيّ والطائفيّ.

ولعلّ المناسبة الدينية، التي تجمع اليمنيين، تدفع الأطراف المتهادنة إلى الارتقاء بحالة السلام الهشّ إلى سلام وتصالح دائمين. وما رشح من أنباء سارة تشير إلى تقدّم ملموس على المسار السياسي، بدأ بتخفيض التصعيد الإعلامي وتهدئة المناكفات والاستفزازات من جميع الأطراف، يزيد من تفاؤلي بإعلان كبير قريب، من عاصمة السلام وبيت العرب، الرياض.

ثمّ هناك الملف الاقتصادي المصري وأبرز ظواهره تدهور قيمة الجنية، وانخفاض رصيد العملات الأجنبية، نتيجة لتكالب ظروف داخلية ودولية عديدة، آخرها انخفاض إيرادات قناة السويس بسبب التهديد الحوثي للممرات المائية في خليج عدن وباب المندب، وتضرّر السياحة بأحداث غزة.

وبعد أن وصل سعر الدولار إلى معدل تاريخيّ لم يسبق له مثيل، وبلغت قيمته ثمانين جنيهاً في السوق السوداء، أعلنت الإمارات عن مشروع مدينة سياحية متكاملة على البحر الأبيض المتوسط، في منطقة رأس الحكمة، يشمل ميناء ومطاراً، ومناطق سكنية وتجارية وترفيهية، بقيمة خمسة وثلاثين مليار دولار، فورياً، ومئة وخمسين ملياراً فرصاً مستقبلية.

كما أعلنت السعودية عن مشروع مماثل على الشط المقابل لمنطقة نيوم وجزيرتي تيران وصنافير التي عادت ملكيتها للسعودية، وعند نهاية مشروع جسر الملك سلمان الذي سبق الإعلان عنه ليربط لأول مرة في التاريخ بين الضفتين الغربية والشرقية للبحر الأحمر، ولينقل السيارات والقطارات وكابلات الطاقة والبيانات بين البلدين.

ردّة فعل الأسواق المصرية كانت مباشرة وسريعة، فقد انخفض سعر الدولار إلى أربعين جنيهاً في السوق الموازية، وتضاعفت أرصدة البنك المركزي، وتحسّن الميزان التجاري؛ والأمل أن يحمل الشهر المبارك المزيد من الأخبار السارة بالهدنة الإنسانية في غزة، وتوقف الاستهداف الحوثي للسفن التجارية، وإعلان تفاصيل جديدة للمشاريع الاستثمارية الخليجية في مصر.

وعلى صعيد الحرب في أوكرانيا، يبدو أن الرياح أصبحت مواتية لسفينة السلام السعودية لتجمع لأول مرة قمّة روسية - أوكرانية تحت رعايتها. فخلال أيام، اجتمع ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، برئيس مجلس الدوما (البرلمان) للجمعية الفيديرالية في روسيا الاتحادية، فياتشيسلاف فولدين، والرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي.

وكان لافتاً تصريح الأخير بقرب عقد قمة السلام الأولى بدعم سعودي نشط، وأن مناقشاته مع ولي العهد ستركّز على صيغة السلام وكيفية تنفيذها، وهي التي تأتي امتداداً للقمة التي استضافتها مدينة جدة يومي 5و6 أغسطس 2023 على مستوى مستشاري الأمن القومي لنحو 40 دولة، وذلك استكمالًا لنقاشات قمة السلام في أوكرانيا، التي استضافتها كوبنهاغن الدنماركية في يونيو 2023. وقبلها شارك زيلينسكي في القمة العربية في مايو 2023 عندما وصل إلى جدة على متن طائرة فرنسية من بولندا لمناقشة صيغة للسلام، وشكر السعودية على نجاحها في ترتيب تبادل الأسرى بين الجانبين. واليوم تعلن الخارجية الروسية أنه تم عقد اجتماع للدول النووية الخمس، روسيا والصين وبريطانيا وأميركا وفرنسا، في العاصمة السعودية، الرياض، يوم ٢٩ شباط، لحظر ومنع انتشار الأسلحة النووية.

إذن، نحن أمام فرصة ذهبية لتحقيق خطة سلام عملت عليها الرياض بهدوء ودأب خلال عامين من التواصل النّشط بين أطراف الصراع، وساعدها في ذلك حيادها الإيجابيّ، ونزاهتها كوسيطٍ ليس له أجندة خفيّة، أو مصالح ذاتيّة، وعلاقتها المتميّزة بموسكو وكييف، وعواصم الدول المتحالفة معهما. وتوافقت الظروف لتخدمها، بعد أن استنزفت الحرب الجميع، بلا أمل في نهاية مرضية، ومن دون أن يحقق الطرفان نصراً حاسماً، وفقدت الحكومات والقيادات الزخم والدعم والتأييد.

ولعلّ الإعلان عن نتائج المبادرة السعودية يتمّ خلال شهر رمضان أو عيد الفطر السعيد.

لربّما نزعت نفسي إلى التفاؤل فخالط الحلم الواقع، إلا أن بوادر الحلّ ورياح السلام تميل إلى التصديق. جرّبنا التشاؤم فقادنا إلى اليأس والإحباط، فلنجرب الإيمان بنصر من الله وفتح قريب.
وكلّ عام وأنتم بخير.

@knatarfi

الكلمات الدالة

الأكثر قراءة

سياسة 11/23/2024 7:37:00 AM
أعلن برنامج "مكافآت من أجل العدالة" عن مكافأة تصل إلى 7 ملايين دولار أميركي مقابل الإدلاء بمعلومات عن طلال حمية المعروف أيضاً باسم عصمت ميزاراني
سياسة 11/23/2024 9:48:00 AM
إسرائيل هاجمت فجر اليوم في بيروت مبنى كان يتواجد فيه رئيس قسم العمليات في "حزب الله"، محمد حيدر

اقرأ في النهار Premium