دراسة عن كيفية فرض وقف شامل لإطلاق النار في غزة وجنوب لبنان

شبلي ملاط

أصدر مكتب البروفيسور شبلي ملاط دراسة بشكل مقال رأي، يحدّد فيه الخطة العملية المطلوبة من الرئاسة الأميركية لإنهاء الحرب في غزة وجنوب لبنان. وفي لبنان على وجه الخصوص، ومع تنامي قرع طبول الحرب، ترتكز الخطة على ضرورة الاعتراف دولياً بالإجماع اللبناني على منع إسرائيل من شنّ حرب شاملة على البلد.
كما تضع الخطة حدًا للتكهّنات في ما يتعلق بصحة الرئيس الأميركي وطاقته على ضمان استمرارية وقف إطلاق النار متى نُفِّذ. ويستند ملاط في هذا الاقتراح إلى عمله العلمي والميداني من أجل السلام في الشرق الأوسط، وعلى مبادرته الأخيرة لمنع لبنان من توريط إسرائيل له في حرب شاملة ومدمرة جرّاء غزة، كما على عمله في الولايات المتحدة في توجيه السياسة في الشرق الأوسط.

وتدعو الخطة المقترحة إلى تحديد الحكومة الأميركية مهلة زمنية لكل من إسرائيل وحماس للبدء بتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2735، وإلى اعتماد الشفافية بشأن صحة الرئيس في أنشطته اليومية، واستعداده لتسليم عباءة القيادة إلى نائبة الرئيس متى لزم الأمر.

وفي الاقتراح تركيز على مركزية واشنطن بالنسبة إلى تمادي الحكومة الإسرائيلية في استمرار الحرب على جميع الجبهات، علماً بأن القضية عالمية، وأن تطبيق قرار مجلس الأمن رقم 2735 لا يحمل أيّ تأخير، وأن مسؤولية إنجازه تقع على الجميع، أفراداً وحكومات، وفي مقدمتهم شعب لبنان وحكومته.

خطة مزدوجة للرئيس الأميركي:
فرض وقف إطلاق النار على الحكومة الإسرائيلية وحماس للفوز رئاسياً
شبلي ملاط
صعود الحاكم المستبدّ في أميركا وبقية العالم خلال العقدين الماضيين له جذور مفهومة جيداً: موجة بنيوية من الهجرة الهائلة المتزايدة من الجنوب، وانعدام الأمن الاقتصادي للطبقة الوسطى وتحوُّلها إلى مجموعة كبيرة من الناخبين، الذين يعيشون في حالة من عدم الاستقرار اليومي.

الهجرة واسعة وبنيويّة، وهي ناتجة عن فشل الاستعمار في بناء دول مستقرّة متى تحرّرت منه، وعن تدهور خطير للمناخ. خروج بريطانيا من أوروبا، فتراجع الاتحاد الأوروبي المتواصل، هما نتيجة لجوء السوريين الجماعي إلى أوروبا في العام 2012 بحثاً عن الأمن. كما أن صعود الحركات المتطرفة الإيطالية والفرنسية جاء إلى حدّ كبير نتيجة الهجرة عبر البحر الأبيض المتوسط من بؤساء الأرض في أفريقيا وآسيا بحثاً عن سماء أكثر لطفاً من أوطانهم. بدأ استحواذ التطرف العنصري على السلطة في إيطاليا، وتلاه صعوده في فرنسا.
الهشاشة وعدم الاستقرار Précaritéوالتهميش Lumpenization:
ما يميز النظام الاقتصادي في الولايات المتحدة هو عدم الاستقرار الاقتصادي وهشاشة وضع الناس، وليس الناتج المحليّ الإجمالي أو نصيب الفرد من الدخل. مثال ذلك في الحياة اليومية للبائعة على صندوق السوبرماركت كنموذج للقوى العاملة: تعويضها زهيد، وآمالها في التقدّم منعدمة، ويتمّ بشكل متزايد استبدال وظيفتها الرتيبة أساساً بالآلة المبرمجة. كذلك الأمر بالنسبة إلى مثيلاتها عبر المحيط الأطلسي. تموت دكاكين التجارة العائلية الصغيرة في كل حيّ، ويتم استبدالها بالعمل في المحال الضخمة في وظائف الاقتصاد اليومي، التي لا تزيد استقراراً عمّا هو عليه تصفيف الشعر وتلميع الأظافر؛ وهي محكوم عليها أيضاً بتخطّيها القريب بسبب المكننة الخوارزمية. عدم الاستقرار يعني عدم اليقين، يعني الوهن والإحباط، يعني تهميش القوى العاملة بأكملها، مع تعريف المهمّشين بحسب معجم ويبستر Webster بأنهم "الأفراد المحرومون والمقتلعون من الطبقة الاقتصادية والاجتماعية التي يتمّ عملهم بها عادةً". هذا كان صحيحاً في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين مع صعود الفاشية، وقد بات سمة عالمية للاقتصادات الحالية، بالرغم من الارتفاع المستمرّ في الناتج الإجمالي وتنوّع المواد الاستهلاكية، على عكس فترة الكساد الكبير في أزمة الثلاثينيات. يزداد العالم ثراءً بينما يشعر الناس بعدم استقرار وضعهم وهشاشته فتهميشهم.
هاتان الخصوصيتان الاجتماعيتان-الاقتصاديتان هيكليّتان في الولايات المتحدةـ تزداد حالة قلق الناس اقتصادياً داخل حدودها، فيزيدها حِدَّةً استمرارُ موجات هجرة القوة العاملة الرخيصة اللاجئة إليها من أميركا الوسطى والجنوبية.
لا حلّ للمعضلتين على المدى القصير، والوقت السياسي يتحرك بوتيرة مختلفة. ولتجنّب تصاعد التطرف في الولايات المتحدة، كما صعوده المرادف في العالم، أقترح وضع هاتين السمتين طويلتي الأمد في الاعتبار جانباً، فيما نتطرق إلى الإطار السياسي الأكثر إلحاحاً في الوضع الأميركي دولياً وداخلياً.
جو بايدن رئيس مخضرم وكُفء، لكن الشعب قلقٌ من عمره وأدائه. يتمّ تسجيل كلّ كلمة وحركة له، والتدقيق في كلّ إيماءة منه، سواء دلّت حقيقةً عن انحدار جسدي وعقلي أم كانت نَسْجَ وسائل الإعلام المناوئة الرسمية والاجتماعية. في الوقت الحالي، يتمتع دونالد ترامب في هذا السجّل بوضع أفضل من وضع بايدن.
من المرجح أن تبقى الأمور الصحية على منوالها حتى الانتخابات. أما إذا أقنع بايدن الجمهور الأوسع أنه يستطيع الاستمرار في أداء مميّز مثل الذي قدّمة أمام الكونغرس في 8 آذار (مارس)، فعليه تخطيط وجدولة خطابات منتقاة، وتجنّب الاستعراضات الجانبيّة المرهقة في الحملة؛ وإذا فشل في كسب الثقة في أي من تلك المناسبات العلنية، فضروريّ أن يكون مستعداً لتسليم الشعلة إلى نائبة الرئيس. ويمكنه هو وكامالا هاريس بعد ذلك مواصلة الحملة بكامل طاقتها، جنباً إلى جنب مع نائب الرئيس الجديد الذي تعيّنه. لقد ثبّتت هاريس وجودها في الأشهر الماضية، وطوّرت بشكل تصاعدي خطاباً حازماً ومقنعاً.
وإذا تعثر الرئيس بحلول المؤتمر الديمقراطي في 19 آب (أغسطس)، فإن الشعب الأميركي سيعرف من الآن ما في الانتظار ولماذا قد يقرّر الرئيس التنحي.
* * *
لكن سحابة أخرى ألقت بظلالها على فرص الرئاسة الديمقراطية. ومثل سوريا بالنسبة إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فإن الأمر يتعلق بإسرائيل وفلسطين بالنسبة إلى قيادة أميركية ضعيفة، وغير قادرة على إجبار أقرب حلفائها وأكثرهم ارتباطاً بها على وقف الحرب. تركت حكومة الولايات المتحدة الحرب الإسرائيلية تطول، وأطلقت العنان لموجات من الاحتجاجات في أرقى الجامعات. لم يؤدِّ هذا إلى تقويض سلطة الديمقراطيين بخزّانهم التقليدي من الشباب الأميركيين المتعلّمين فحسب، بل خلق المزيد من عدم الاستقرار في الفضاء العام.
حصلت حكومة الولايات المتحدة بشبه إجماع على قرار وقف إطلاق النار في 10 حزيران الماضي. وعلى الرغم من أن قرار مجلس الأمن 2735 (2024) جاء متأخّراً، فإنه قرار ممتاز. وخلافاً لما تقوله أو يُدّعى بأنها تقوله الحكومة الإسرائيلية وحماس كلتاهما، فإن القرار -إذا نفّذ- يوقف الحرب في المنطقة. وقد التزم حزب الله بإنهاء الأعمال العسكرية على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية بمجرد أن يقف هول القتل في غزة.
فلننظر إلى الجدول الزمني المذكور في القرار. المرحلة الأولى من ستة أسابيع، تبدأ من وقف إطلاق النار الكامل، وتطلق خلالها حماس سراح عشرة أو ثلاثين أو أربعين رهينة، أحياء أو أموات، فيما تطلق إسرائيل عدداً من الأسرى الفلسطينيين، ويبدأ فكّ الحصار عن المدنيين في غزة. تستمرّ المفاوضات في المرحلة الثانية حتى إطلاق سراح جميع المخطوفين ورفاتهم مقابل انسحاب إسرائيل الكامل من القطاع، فيما يستمرّ النازحون في غزة بالرجوع إلى حيث أخذهم نزوحهم الأول، عندما مُنعوا من العودة إلى ديارهم في عام 1948. هذا في نصّ القرار. أمّا إذا بدأ بنيامين نتنياهو الحرب مرّة أخرى بالقول إن المفاوضات قد فشلت، فيعود الوضع إلى ما هو عليه اليوم. من الصعب تصوّر مثل هذا الاحتمال في كل من إسرائيل والولايات المتحدة، لأنه يكرر الخيارات المأسوية لعائلات الرهائن المتبقّين، ويطلق العنان لنزوح جماعي جديد لسكّان غزة. قالها الرئيس الأميركي ونائبته بالحرف، "حان الوقت لإنهاء الحرب". الحكومة الإسرائيلية متضعضعة، وعند أميركا وسائل لإضعافها حتى الاستقالة.

يحتاج الرئيس الأميركي إذن إلى ترجمة انتصاره الديبلوماسي بإجماع قرار مجلس الأمن حقيقة ًعلى الأرض. ولاستدراك تبادل الاتهامات حول من هو المسؤول عن عدم قبول وقف النار، يكفي الإدارة الأميركية طلب شيء واحد من الأطراف المتحاربة: التاريخ والساعة لوقف إطلاق النار. تقول حماس إنها "ترحب" بوقف إطلاق النار، وجوابها بالإيجاب محتّم برّدٍ على الإنذار الأميركي بتعيين الليلة أو منتصف الليل غداً أو بعد غد، أو بمجرد أن يحدّد الإسرائيليون الوقت. في حال رفضت حماس، سهل على حكومة الولايات المتحدة ومجلس الأمن الدولي أن يعلنا انتهاكها للقرار، والسماح للحكومة الإسرائيلية بمواصلة الحرب بلا هوادة. أمّا بنيامين نتنياهو، فمستمرٌ في اللعب على الوقت والكلمات، ولكن إلى متى؟ إذا أعطت حماس التزاماً على النحو الوارد أعلاه، فهل يمكنه عدم إعطاء موعد؟ تذكّره الحكومة الأميركية عندئذٍ بأن المصالح الأميركية تأتي أولاً، وسهل على الإدارة حجب تأشيرة زيارته إلى الكونغرس في تموز، أو إعلان دولة فلسطينية في داخل حدود عام 1967 تتعهد بحمايتها، خاصة أن قرار وقف إطلاق النار يعلن بوضوح موافقة الولايات المتحدة على حلّ الدولتين، وإقرار لا سابق له بضرورة رابط جغرافي بين الضفة الغربية وغزة.
لننظر الآن إلى الجدول الزمني:
مع بدء المرحلة الأولى من وقف إطلاق النار في أواخر حزيران، ولمدّة تفصله عن خطاب نتانياهو في 24 تموز، أي أقلّ من ستة أسابيع، يستمتع نتنياهو بحفاوة الكونغرس، من دون المخاطرة بتقويضه من قبل الرئيس بايدن أو أعضاء الكونغرس في الحزب الديمقراطي. لا مصلحة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بخرق الاتفاق في هذه الفترة؛ والأهمّ أن المرحلة الأولى تقرّبنا من المؤتمر الديمقراطي في 19 آب (أغسطس). مع وجود خطة لبداية حلّ أزمة الشرق الأوسط بالكامل باستقرار وقف إطلاق النار، يظهر الرئيس الأميركي مرة أخرى كزعيم عالمي.
لا ينبغي التقليل من جاذبية صورة الرئيس الدولية يوم الاقتراع. عدم الاستقرار مهم، كذلك الهجرة، لكن الحسّ بالقيادة مهمّ أيضًا. بعد سلام كامب ديفيد بين إسرائيل ومصر، كان جيمي كارتر محتّم الفوز لولا سوء حظّه في عملية إطلاق سراح الرهائن الأميركيين المحتجزين في طهران. وكما حظي رونالد ريغان منذ فوزه في الحرب الباردة بهالة من البطولة لدى الجمهوريين، كذلك جاء تحرير العراق من صدام حسين عام 2003 في الوقت المناسب لإعادة انتخاب جورج بوش الابن في العام اللاحق، ولم يتحوّل هذا التحرير إلى احتلال إلا في وقت لاحق.
يمثّل الجمع بين هذين المسارين لتحقيق فوز ديمقراطي في 5 تشرين الأول (نوفمبر) استراتيجية انتخابية، أقلّ تعقيداً مما يظنُّه الكثيرون، بإعلان الرئيس الأميركي ما يقارب الآتي:
"تصرّ حكومة الولايات المتحدة على تطبيق قرار مجلس الأمن رقم 2735 (2024) الأسبوع المقبل. وتريد أن يبدأ وقف إطلاق النار في وقت مبكر من منتصف ليل ____. وهي تتوقع من الحكومة الإسرائيلية وحماس أن تقبلا به من دون شروط. أما إذا رفضت الحكومة الإسرائيلية القرار أو التزمت الصمت، فحكومة الولايات المتحدة مصمّمة على إعلانها منتهكةً للقرار، وستنظر في خياراتها [كما هو مذكور أعلاه، رفض التأشيرة و/أو الاعتراف بالدولة الفلسطينية وحمايتها، وعدد من الاحتمالات الأخرى]. وإذا رفضت حماس الالتزام بالقرار أو التزمت الصمت، فإن الحكومة الأميركية تعتبر حماس منتهكة للقرار، وللحكومة الإسرائيلية استئناف عملياتها العسكرية.
وبمجرد سريان وقف إطلاق النار، تبدأ المرحلة الأولى بموجب الخطة الأميركية كما وردت في قرار مجلس الأمن، حسب الجدول الزمني المقترح، مدّتها ستة أسابيع، بدايةً من النصف الثاني من تموز، أي ما بين أوائل ومنتصف آب (أغسطس). حتى ذلك الحين، يكون بنيامين نتنياهو قد زار واشنطن، حيث يتمّ تحذيره مرة أخرى من خرقه وقف إطلاق النار، وتكون المساعدات لغزة على قدم وساق؛ ويكون قد تمَّ إطلاق سراح المجموعة الأولى من الرهائن الإسرائيليين والأسرى الفلسطينيين وسط حالة من الترحيب في جميع أنحاء العالم، ممّا يحتّم احتفال مؤتمر الحزب الديمقراطي بريادة بايدن الدولية. والأرجح أن يستمرّ هذا الوضع حتى الانتخابات، خاصة مع الفوضى المتوقعة في معسكر دونالد ترامب.

بموازاة ذلك، وبمجرد تنفيذ وقف إطلاق النار في غزة، يمكن الشخصيات المعروفة في الحزب الديمقراطي معالجة القلق المتنامي جراء الضعف العقلي والجسدي للرئيس. من الوجهة الدستورية، يجوز نقل القيادة إلى كامالا هاريس، إذا لزم الأمر، حتى الأسبوع الذي يسبق يوم الانتخابات.
يتطلب هذا المسار إعلانًا بسيطًا من البيت الأبيض على النحو الآتي:
"الرئيس بصحة جيدة، وعمله مستمرّ يومياً كالعادة، لكنه يفكّر في الخطر على الديمقراطية الأميركية من أي هفوة منه، وهو مستعدّ للاستقالة لصالح نائبة الرئيس، إذا تعثرت حالته الجسدية بطريقة قد تضعف أداءه السياسي. ولضمان إطلاع الرأي العام الأميركي بشكل كامل على صحة الرئيس واستمرار قيادته غير منقوصة، قرّر البيت الأبيض تقديم تقرير أسبوعيّ عن العمل الاستثنائي الذي يواصل الرئيس إنجازه كل يوم.
لن يتردّد الرئيس بايدن في الاستقالة إذا رأى أن تسليم عباءة القيادة لنائبة الرئيس يصبّ في مصلحة البلاد.
ويرغب الرئيس بايدن في إتمام المسار نحو السلام في الشرق الأوسط بالتنفيذ الكامل لقرار مجلس الأمن الدولي قبل التئام المؤتمر الديمقراطي في آب."
شبلي ملاّط محامٍ وناشط في مجال حقوق الإنسان، وأستاذ في القانون. تشمل كتبُه بالإنكليزية "الشرق الأوسط في القرن الحادي والعشرين"، وبالعربية والإنكليزية "الديمقراطية في أميركا".