الأمر ليس مجرّد صورة، وبعيداً كل البعد من الحديث حول ماهيّة الحادثة ومدى صدقيتها، "فمحاولة الاغتيال" التي تعرّض لها المرشح الجمهوري دونالد ترامب في ولاية بنسلفانيا كشفت عن سلاح انتخابيّ استعمله الأخير ليقضي على خصمه الديمقراطيّ المترنح جو بايدن برصاصة رحمة أخرى تضاف إلى رصاصتين آخريين (القوّة الإدراكيّة العقليّة، القضيّة الفلسطينيّة)، يعود ترامب أو على الأرجح فريقه الانتخابي إلى ألف باء اللعبة الدعائيّة أو الحرب النفسيّة من خلال رؤية الناخب وبصيرته التي لطالما تمّ تغييبها خصوصًا في المناظرة الأولى التي اعتمدت على الكباش غير المتكافئ بين المرشحين واللعب على الألفاظ والانفعال.
فكيف استطاع ترامب إسقاط صورته المضطربة؟ وإلى أيّ حدّ تجاوز خصمه المطوّق بالارتباكات؟
الصورة ومحو الفضائح والبربريّة
خدمت الصحافة عمومًا ووكالة الصحافة الفرنسيّة خصوصًا النّص الهوليوودي الذي قد يكون من صنيعة حملة ترامب أو هديّة قدريّة له، فثلاثيّة القبضة والعلم الأميركي والدماء أعادت النقاش حول ردّ الفعل الجماهيري من جهة والتساؤل هل نحن أمام ما يسميه المفكّر الفرنسي ميشيل فوكو "فعل على الفعل؟" محاولة الاغتيال وفقًا للسرديّة الأميركيّة الاستخباراتيّة أتت من شابّ عشريني...أيّ بالمبدأ وبعيدًا من السرديّات الكلاسيكيّة حول اختلال عقلي يتربّص بالجاني وغيرها، نحن أمام سلوك محض انفعالي غطّى على انفعاليّة ترامب وغلّف صورته المشوّهة بالنسيان، بدءًا من علاقته بالممثلة الاباحيّة ستورمي دانييالز ومحاولة اقتحامه الكونغرس والرشاوى وغيرها.
صحيح أن ترامب لم يحتج إلى هذه الحادثة ليعزّز خطابه ومخارجه القانونيّة لكنّ رصاصة الشاب العشرينيّ التي خدشته كانت تصويبًا مساعدًا يذكّره أن بايدن صار مجرّدًا وأنّ الطريق إلى البيت الأبيض صار كطريق سلحفاة تسابق أرنباً كسيحاً. الدماء التي سالت على خدّ الرئيس الأميركي الأسبق والتي تتقاطع مع صورة العالم ستعيد الديمقراطيين أنفسهم المنهكين بانقسامات حول انسحاب بايدن أو إبقائه حتى الرمق الأخير إلى عام 1963 حين نالت رصاصة "النقمة" من الرئيس الديمقراطيّ آنذاك جون كينيدي، انفعال وحماسة سيفهم الجمهور الديمقراطي حين يراها لدى الجمهوريين الذين صاروا بعد هذه الواقعة تحديدًا في حالة يسميها المفكر الفرنسي غوستاف لوبون "بالذوبان" حيث يتساوى المفكّر مع الاسكافيّ ليشكلا لاوعيًا جماهيريًّا واحدًا.
سيدرك مستشارو ترامب أنّ وضع النقاط على حروف البرنامج الانتخابيّ هو الأهم، طالما أنّ الديمقراطيين لن يهيئوا بالمبدأ ما ينافس هذه الهجمة "الدعائية النفسيّة" المتمثلة بمحاولة اغتيال مرشّح، على الأرجح بات على دونالد ترامب أن يراجع أكثر سياسته تجاه الدول، تجاه اسرائيل وحل الدولتين مع ابقائه على سياسته الداخليّة التي لم تزعج الأميركيين بل أغدقت خزينتهم بالمال الصافي الذي يعزز الانماء، سيكون عليه أن يحتفظ بتقاطع دمائه مع رمزية الدماء في العلم الأميركي عبر التفكير بخلق فرص عمل وتحقيق انتصار اقتصاديّ يشبه ما حقّقه خلال مرحلة الكوفيد-19، حينها سينسى الناخب فضائحه إلى الأبد وربّما يتقبّل خطابه البربريّ.
ماذا لو تجاوز بايدن الصورة؟
تعيدنا حادثة بنسلفانيا إلى حادثة تكساس في ستينيات القرن الماضي، بالرغم من اختلاف الغايات والظروف والحسابات السياسيّة، يمكن لبايدن وحملته أن يشعروا بالأسى لأنّ الحادثة لم تكن هديّة لهم خاصّة وأنّ الديمقراطيين هم أصحاب "جرح كينيدي" لكن السؤال ماذا لو تجاوز بايدن الصورة؟ بقي أمام بايدن فقط أداة واحدة يمكن ان يقدّمها لجمهوره وهي التي حلّلها ماكس فيبر "الكاريزما" حيث أنّ ترامب بالرغم من تقدّمه على منافسه بهذه النقطة سواء من ناحية القوّة الادراكيّة والتصويب عليها قبل ساعات من الحادثة:" سأذهب معك ياجو لفحص قدراتنا الإدراكيّة...سنكون فريقًا واحدًا لأوّل مرّة" (بتصرّف) إلّا أنّ الكاريزما قابلة للجبر والترميم في حالة واحدة فقط... إذا عاد الديمقراطيّون إلى ما حدث خلال أعوام 1968/1980/2008 أي إلى "أجواء المؤتمرات الديمقراطيّة" التي التفّ فيها الديمقراطيّون حول بعضهم البعض واختاروا مرشّحًا لخوض السباق الرئاسي، خاصّة وأنّ معسكر باراك أوباما وهيلاري كيلنتون اليوم يضغطون إلى جانب المانحين الديمقراطيّين لسحب مرشّحهم الأساس واستبداله بآخر فضلًا عن بدء كاميلا هاريس نائبته الأولى بالترويج غير المباشر لنفسها. لمّ الشمل الديمقراطي سيساعد الديمقراطيين على تحصين بيتهم والتفكير الجدّي بتخطي ارتباكات بايدن، فضلًا عن التعامل مع الموت السريري لإدارتهم القائمة في ظلّ استمرار حرب غزّة وتصاعد الحركة الطلّابيّة داخل الولايات المتّحدة الأميركيّة والترقّب لمصير أوروبا والاتحاد الأوربيّ وحرب أوكرانيا وحساسيّة تايوان والصين.
الأمر يتجاوز كونه صورة واحتماليّة فوز هو بدوره ورقة نعي للديمقراطيين في حال لم يردّوا ولو بشكل دعائيّ ضعيف يقنع جمهورهم على الأقل.
ينسب لرئيس وزراء بريطانيا الأسبق ونستون تشرشل المقولة التالية: "كثيرًا ما غيّرت الحرب النفسيّة أوجه التاريخ" واليوم نحن أمام امتداد لحرب نفسيّة ضروس بين الجمهوريين والديمقراطيين قد تعطي تاريخ الولايات المتحدة الأميركيّة المعاصر صورة جديدة تغيّر المشهد الانتخابي لا بل تغيّر قواعد الاشتباك الانتخابي، فهل نحن أمام تتويج مبكر لترامب أم الكلمة ستكون حكمًا في الصناديق"؟