حرائق مشتعلة في براميل نفط في ميناء الحديدة اليمني بعد الغارات الإسرائيلية (أ ف ب).
يقول اليمنيّون: "لا بدّ من صنعاء ولو طال السفر". ويبدو أنّ هذه المقولة تنطبق أيضاً على دائرة الأحداث التي لا تكاد تغادر عاصمة اليمن السعيد حتّى تعود إليها.
فمنذ الحروب الستّ بين الحكومة والحوثيين في مطلع الألفية الثانية، تسارعت الدائرة الملتهبة لتسقط "الزعيم" الأزليّ، علي عبدالله صالح، وعائلته، بعد أن بلغتها العاصفة الأوبامية الإخوانية، التي زلزلت عروش "الجمهوملكيات" العربية من تونس وليبيا إلى مصر وسوريا.
وتحوّلت صنعاء منذ ذلك التاريخ إلى مسرح لأعجب حلقة من مسلسل "لعبة العروش"، منذ انقلبت جماعة الحوثيّ بدعم أمميّ، غربيّ، فارسيّ على شراكتهم مع الحكومة الشرعية، واحتلوا العاصمة وبقية مناطق الشمال. ولولا استغاثة الرئيس عبد ربه هادي الهارب من سجونهم، واستجابة السعودية وحلفائها العرب والمسلمين، لسقطت العاصمة الاقتصادية، عدن، وتبعتها عاصمة المحافظة الأغنى والأكبر، حضرموت، ثمّ المهرة.
توالت فصول المسرحية، من حرب داخلية، إلى حرب مع التحالف العربيّ، ثماني سنوات، حتّى بلغنا أخيراً محطّة استراحة المحارب، وبدأنا مسيرة العودة إلى محادثات السلام والحلّ السياسيّ، ولم نكد…
بعد مرور دام، لم ينته بعد، في السودان، وغزّة ولبنان، عادت الدائرة (الغربية - الفارسية) إلى صنعاء بتصعيد صاروخيّ بين صعده وتل أبيب وحلفائها، نالت النصيب الأكبر من نيرانه اقتصاديات دول المنطقة والتجارة الدولية عبر البحر الأحمر وقناة السويس.
وحسب قناة المسيرة الحوثية، تُعدّ الضربة الجوية الإسرائيلية لميناء الحديدة الأولى منذ 2015 لأهداف مدنية حيوية. فقد حرص التحالف العربي بقيادة السعودية وتحالف حماية الازدهار بقيادة أميركا على عدم المساس بالبنية التحتية وتحاشي المناطق السكانية. وفي عام 2018 تكالب المجتمع الدوليّ على ممانعة دخول قوات الشرعية اليمنية والتحالف العربيّ إلى صنعاء والحديدة "تحاشياً لسقوط ضحايا مدنيين أو تضرّر الميناء، وحرمان الشعب من أكبر منافذ دخول المساعدات الإنسانية، ولو لأيّام تنهي مأساة سنين.
أمّا إسرائيل، الذيل الذي يحرّك الكلب، كما يقول المثل الأميركي، فقد كسرت كلّ قواعد الاشتباك وقوانين الحروب المتعارف عليها، أو تلك المصمّمة خصّيصاً لنا. ودمّرت في ساعة واحدة كلّ ما دافع الغرب والأمم المتّحدة عنه في سنين. وبالطبع، لم تجرؤ على الاعتراض والانتقاد أيّ عاصمة غربية أو منظّمة حقوقية وأممية أو قناة إعلامية دأبت على التغاضي عن العدوان الحوثي على إخوانه وجيرانه، والتحامل على كلّ ردّ ودفاع عن النفس. وتوصيف الرقابة على واردات الميناء حصاراً يفاقم الأزمة الإنسانية، والصمت المتعاطف عندما تحوّل إلى نار ودخان وجثث متفحّمة.
لقد كان الموقف السعوديّ منصفاً ومبدئيّاً عندما أدانت الرياض العدوان الإسرائيليّ على مقدّرات الشعب اليمني الشقيق، ومناطقه الحيوية، بقدر إدانتها لتهديد حرية الملاحة البحرية والتجارة الدولية. ورفضت فتح الأجواء للعدوان الصهيوني ومن قبله التحالف الأميركيّ الأوروبيّ، كما منعت من قبل مرور صواريخ ومسيّرات إيران وعملائها عبر سمائها. فبلاد الحرمين التي تمثّل جزيرة الأمن والسلم والتنمية في المنطقة تأبى أن تخالف مبادئها وعقيدتها بالدخول في أيّ صراعات مدمّرة إلّا بهدف إطفاء نيرانها.
والردّ العمليّ السعوديّ بدأ بسلسة المؤتمرات والقمم الدولية التي عقدتها، وتواصل بالجولات المكوكية للجنة الاتصال الدوليّة المنبثقة عن القمة العربية الإسلامية برئاسة وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان في عواصم العالم، وأسفر عن اعتراف الغالبية الساحقة من أعضاء الأمم المتحدة بما فيها دول أوروبية رئيسية ودولة الفاتيكان التي تمثّل أكثر من مليار كاثوليكيّ، بالدولة الفلسطينية، وأثمر عن قرارات أممية واضحة وغير مسبوقة تدين العدوان الإسرائيليّ وتجرّم قادة إسرائيل وتطالب بخروج قوات الاحتلال من الأراضي الفلسطينية جميعها في الضفّة الغربية وغزّة.
نيران الدائرة المشتعلة تمتدّ اليوم آلاف الكيلومترات من جنوب لبنان إلى صنعاء مروراً بغزّة والسودان. والذي ينفخ في هذه النيران من واشنطن ولندن وطهران سيكتوي حتماً بها. فالرياح التي تحمل الحرائق جنوباً قد تغيّر اتجاهها في أيّ لحظة وترتدّ على أصحابها. وعلى هذه العواصم أن تتذكّر التحذير الذي نعلّمه لكلّ طفل مشاغب من عواقب اللعب بالكبريت. خاصّة في عالم متشابك، مترابط، وغابة متّصلة، كعالم اليوم. ألم تعلّمنا دروس الأرهاب هذه المخاطر حتّى نكرّرها؟
@kbatarfi