لم يستطع الرئيس الأميركي جو بايدن إكمال السباق الرئاسي. ليس بسبب وهن في عضلاته بل في عقله. تصريحاته ومناظرته مع دونالد ترامب كشفت عن ضعف في القدرات العقليّة، من تركيز وذاكرة وربط المسائل بعضها ببعض، فضلاً عن التسلسل المنطقي للأفكار.
عاند بايدن ابن الـــ 83 سنة، ولم يشأ الإقرار بهذا الوهن الذي اصابه بسبب العمر. عزّ عليه الأمر في بلاد تعوّد فيها الرئيس الحكم خلال ولايتين متتاليتين.
كما أنه ليس سهلاً أن يقرّ الإنسان بتراجع قدراته العقليّة. لكن ضغوطات أعضاء حزبه الذين يتطلعون إلى الانتصار في الانتخابات، كما ملاحظات الصحافة والعلماء، أجبرته في النهاية على الرضوخ. وساعدته إصابته بكورونا في إيجاد الوقت الملائم للانسحاب، متحجّجًا بالطبع بالمصلحة الوطنية العليا.
على عكس بايدن، فرنجيّة مصرّ على البقاء في السباق الرئاسي. عمره يسمح له بذلك كما انه رياضي وصحّته الجسديّة تبدو على أفضل ما يرام. ولحسن حظّه، لا تُمتحن في بلاده رجاحة عقل المرشّحين للرئاسة.
فلا سباق رئاسي أصلاً، بالمعنى الديمقراطي للكلمة، يقف خلفه حزبان أو أكثر يتنافسون على إظهار جدارة مرشحيهم، بل هناك محاولة لفرض انتخاب مرشّح من قبل الثنائي الشيعي، من خارج العمليّة الديمقراطيّة، ولا حاجة لبذل الجهد لإظهار جدارة هذا المرشّح في معالجة القضايا الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة.
كما ان لا مناظرات بين المرشحين، تسمح بتوضيح أفكار وجدارة المرشّح في طرح الحلول والدفاع عنها. في هذا السياق، كم كان سيكون محرجًا لفرنجيّة لو جرت مناظرة بينه وبين منافسه أزعور وكان عليه المحاججة في الشأن الاجتماعي والاقتصادي والمالي الذي يهم المواطنين.
أضف الى ذلك إلى ان ضعف الثقافة الديموقراطيّة في لبنان لا تحبّذ، لا بل تعاقب، من يمس بـــ "المقامات" عبر إنتقاد بعض الصفات الشخصيّة للزعماء ومن بينهم المرشحون للرئاسة، ومن بين هذه الصفات ذكاؤهم ورجاحة عقلهم وقدرتهم على معالجة مشكلات البلاد.
صحيح انه ليس مطلوبًا من الرئيس اللبناني أن يتحلّى بقدرات ورجاحة عقل الرئيس الأميركي الذي يحكم في نظام رئاسي يضع بين يديه معظم الصلاحيات والمسؤوليات. فالرئيس اللبناني شبه مجرّد من الصلاحيات في نظام الطائف. مع ذلك لا يزال يمسك بأهم صلاحية ألا وهي الحفاظ على الدستور وعلى إستقلال البلاد. وهذه الصلاحية بحدّ ذاتها، تفترض إلى رجاحة العقل القانوني والاقتصادي والمالي، الكثير من الشجاعة في ظلّ تحكّم السلاح بمصير البلاد. والشجاعة تتطلّب حريّة العقل وهي أساس قدراته جميعًا. وعكسها هو العقل الخاضع لاعتبارات الأمر الواقع، والذي ليس عليه سوى تطوير المهارات التبريريّة الذهنيّة للخضوع، وما يترتّب عليه.
كل ذلك لا يعني أبدًا، أن بلاد بايدن تعلي من شأن العقل ورجاحته. فحماسة الكثير من الأميركيين لإنتخاب شخصيّة مثل ترامب، ليست مؤشّرًا عقلانيًّا. فخطاب ترامب يفتقد الى معظم عناصر العقلانيّة، ابتداء من الاستناد إلى المعلومات الصحيحة والدقيقة، مرورًا بالتحليل المنطقي المستند إلى العلم وليس إلى الأيديولوجيّة الدينيّة والقوميّة، انتهاء بالاستنتاجات والتوقّعات الواقعيّة وليست تلك المغذية للبطولات الوهميّة.
لا استغرب هذا الشطط العقلي الأميركي، المواكب للشطط العقلي الأوروبي مع صعود اليمين المتطرّف، وقد قدّم بشأنه علماء الاجتماع والسياسة والنفس تحليلات مقنعة لا مجال للغوص فيها هنا.
أفضل الإشارة إلى أن هذا الشطط العقلي يأتي في زمن "الذكاء الإصطناعي" وكأنّه إحدى نتائج تخلّي الإنسان عن عقله لصالح الآلة. في نص قصير منشور في كتابي "ممرات انسانية إلى غزة"، بعنوان "غباء الذكاء الاصطناعي" كتبت:
"الذكاء الاصطناعي أعلى درجات الغباء البشري، لأنه يفصل الإنسان عن عقله".
الذكاء الاصطناعي أعلى درجات الغباء البشري العاطفي، لأنه يفصل العقل الادراكي عن العقل العاطفي غير المنفصلين في دماغ الانسان، كما أنه يحرم البشر من نزهة التفكير، بدءاً من لمعة التساؤل مرورا بجرأة الشك وصولاً لى متعة الاكتشاف.
الذكاء الاصطناعي أعلى درجات الغباء البشري الرأسمالي، لأنه يحسم أن السلعة أهم من العمل الذي أنتجها.
الذكاء الاصطناعي أعلى درجات الغباء البشري الاستبدادي، لأنه يتكلم باسمك ويفرض عليك حقائق لا رقابة لك عليها.
الذكاء الاصطناعي أعلى درجات الغباء البشري الديني، لأنه يستعجل الوصول إلى نهاية الطريق فيما الطريق هي الحياة ونهايتها هي الموت".
كم يليق غباء الذكاء الاصطناعي بشخصية مثل ترامب، فهو نرجسي عريق ومشاعره من حجر، يغتصب النساء ويزوّر في أعماله، ويعشق بناء الجدران بين الأجناس البشرية بدل تشييد الجسور في ما بينها.
بانتخاب ترامب، سيفقد العالم عقله للمرة الثانية، وربما الأخيرة.