الجمعة - 13 أيلول 2024
close menu

إعلان

مؤتمر الحزب الديموقراطي وفشل الفلسطينيين الأميركيين

المصدر: "النهار"
كامالا هاريس في اليوم الرابع والأخير من المؤتمر الوطني الديمقراطي (أ.ف.ب)
كامالا هاريس في اليوم الرابع والأخير من المؤتمر الوطني الديمقراطي (أ.ف.ب)
A+ A-
حسين عبدالحسين*
 
الخيبة التي أصابت العرب الأميركيين، أثناء انعقاد مؤتمر الحزب الديموقراطي — على مدى الأسبوع الماضي — لتبنّي ترشيح نائبة الرئيس كمالا هاريس للرئاسة في الانتخابات المقررة في تشرين الثاني، دفعت عضو الكونغرس من أصل فلسطيني رشيدة طليب الى البكاء أثناء مداخلة لها في إحدى الجلسات الفرعيّة للمؤتمر. "لماذا علينا استجداء الحزب الديموقراطي للموافقة على إطلالة لأحد الفلسطينيين الأميركيين في خطاب على غرار الخطابات الاخرى؟" تساءلت طليب.
 
الحزب الديموقراطي يسعى للفوز بالانتخابات، وهو ما يتطلب قراءة للمزاج الشعبي الأميركي. بعد استطلاع دقيق، تبين أن أفكار ومطالب وشعارات أقصى اليسار، المعروف بالجناح التقدمي، لا تتمتع بشعبية تذكر بين الأميركيين، الذين ما تزال غالبيتهم وسطية ومتمسكة بوطنيتها الأميركية، على عكس أقصى اليسار، الذي تحول عداؤه لما يراه الامبريالية الأميركية في العالم عداء للوطن الأميركي نفسه، وصار أقصى اليسار يصور الولايات المتحدة على أنها دولة قائمة على ظلم السكان الأصليين واستعباد الأفارقة وباقي الأعراق من غير البيض.
 
معاداة أميركا والليبرالية والرأسمالية، والإصرار على سياسة "التنوع والمساواة في النتائج والتمثيل العرقي" هي سياسة جمعت تيارات أميركية يسارية متطرفة تتراوح بين الإسلام السياسي والشيوعية والأناركية التي ترى في إيران وحزب الله وحماس والحوثيين حركات تحرر عالمية، والتي تنحاز ”للجنوب العالمي“، ضد ”الرجل الأبيض“ الكولونيالي الأوروبي، والغرب عموما بقيادة الولايات المتحدة.
 
الغالبية الساحقة للأميركيين ما تزال في الوسط، تتباهى بالولايات المتحدة كأنجح نموذج حكم في العالم، نموذج أفضى الى قيام أكبر اقتصاد حيث يترواح حجمه بين ربع وثلث الاقتصاد العالمي بأكمله. ومع القوة الاقتصادية جاء التفوق العسكري، فصارت أميركا قوة عظمى تتصدر الكوكب. هذا لا يعني أن الوسطيين في الحزب الديموقراطيين لا يطالبون بتغييرات لتحسين وضع المرأة وحماية حقوقها، بما فيها الاجهاض، ولحماية خيارات الناس، مثل حول المثلية الجنسية.
 
لكن الانتفاض على القيم الاجتماعية السائدة لا يعني الانتفاض على الجمهورية الأميركية ومبادئها المؤسسة، وهو ما حمل الحزب الديموقراطي على ”العودة“ الى أميركيته التي تغرّب عنها بشكل سمح للشعبويين اليمنيين بالصعود على ظهر الوطنية الأميركية، التي صارت تصل لدى بعض اليمين الى حد التطرف والعنصرية على شكل ”قومية مسيحية“ ضيقة.
 
ومن الأمثلة على معاداة الوطن الأميركي كان تصريح ميشال أوباما، بعد فوز زوجها باراك بترشيح حزبه للرئاسة للمرة الأولى في العام 2008، أنها شعرت للمرة الأولى بفخرها بكونها أميركية، وهو تصريح أثار عاصفة وكاد يطبح بترشيح باراك، الذي غيّر عادة سابقة له — بعد انتقادات — وصار يرتدي العلم الأميركية دبوساً على جاكيتات بذلته.
 
بعدما شتوا عن الوطنية الأميركية لقرابة العقد، أدرك الديموقراطيون الخطأ، فعدلوا مسارهم، وجاء المؤتمر الحزبي ليظهر فيه الحزب بصورة أميركية متجددة، فالمديح الذي كاله المسؤولون في خطاباتهم لوطنهم، وترديد الحضور هتاف ”يو أس اي“ مرارا وتكرارا، كلها أكدت أن الحزب الديموقراطي فخور ببلاده، وأنه ليس معاديا لها، ولا هو في محور ”الجنوب العالمي“.
 
لم يقرأ الفلسطينيون الأميركيون التغيير في المزاج الأميركي العام، ولا هم تعلموا من الخسارات التي تكبدها مرشحو ”الجناح التقدمي“ في الانتخابات التمهيدية الحزبية، بل أن الفلسطينيين، على عادتهم، بالغوا في تقدير شعبيتهم والتأييد الذي يحظون به، وأصرّوا على العيش على الهامش السياسي الى جانب المجموعات الصغيرة المتطرفة، من اناركيين وشيوعيين وطلبة جامعيين.
 
لم يحمل العرب الأميركيون علما أميركيا واحدا في تظاهراتهم، العامة والجامعية، بل هم أحرقوا العلم الأميركي في بعض الأحيان، ولفّوا وجوه تماثيل مؤسسي الدولة بالعلم الفلسطيني والكوفية، ولوّحوا بأعلام ”حزب الله“ اللبناني وحماس، حتى أن مرشد الثورة الايراني علي خامنئي وجه اليهم الشكر، وكذلك فعل أمين عام ”حزب الله“ حسن نصرالله.
 
على عكس باقي الدول التي تقوم على اثنية معينة أو على تاريخ من الغزوات أو الانتصارات، تقوم الولايات المتحدة، ذات التنوع العرقي، على العلم الأميركي والوثائق المؤسسة للجمهورية، وخصوصا الدستور. ويعامل الأميركيون العلم والوثائق على أنها مقدساتهم. لكن غالبية العرب الأميركيين تتمسك بهويتها الاثنية أو دينها الاسلامي، فترفض الانخراط بالمجتمع الأميركي وتقديس العلم والدستور، وتبقى تاليا دخيلة، وتخال ان غربتها عن باقي الأميركيين تمييز ضدها واضطهاد تطلق عليه تسمية اسلاموفوبيا، وتصرخ ليل نهار ضد هذه المظلومية المتخيلة وتطالب بالانصاف والحقوق.
 
ويصرخ العرب والمسلمون الأميركيون ضد الدولة الأميركية الكولونيالية، ويناصرون السكان الأصليين، مع أن العرب أنفسهم هم مثل البيض الأوروبيين وباقي الشعوب من الأميركيين، وافدون وليسوا من السكان الأصليين.
 
هذه الضحالة الفكرية، والتخبط السياسي، والضجيج المتواصل، والاعتداء على الآخرين وعلى الممتلكات العامة اثناء التظاهرات، كلها أفقدت العرب والمسلمين الأميركيين التأييد بين غالبية الأميركيين العظمى، فأظهرت استطلاعات الرأي، مرارا وتكرارا، أن شعبية اسرائيل بين الأميركيين تتعدى الثمانين في المئة، فيما التأييد للفلسطينيين بالكاد يصل العشرين.
 
واكتشف خصوم الفلسطينيين الأميركيين نقاط ضعفهم، فكرسّوها، وصاروا يرسلون في اتجاه تظاهرات غزة التي أقيمت أمام مقر انعقاد المؤتمر الحزبي الديموقراطي أشخاصا يلوّحون بالعلم الأميركي، فيثور الفلسطينيون ضدهم ويحاولون طردهم، ويتم تسجيل الحادثة على الفيديو ومشاركتها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فتؤكد هذه الفيديوهات أن العرب الأميركيين طابور خامس، وأنهم لا يقسمون الولاء للدولة الأميركية ولعلمها، بل لأمتهم العربية والإسلامية، وهو عكس تماما ما يفعله اليهود الأميركيون، الذي يضعون أميركيتهم فوق أي اعتبار، ويعتبرون أن تحالف أميركا مع إسرائيل هو في الأساس مصلحة أميركية يسعون اليها.
 
أما حبة المسك، فتمثلت ببلاهة مطالبة العرب الأميركيين، الذي رفضوا التصويت للائحة بايدن وهاريس في الانتخابات التمهيدية للحزب في ولاية ميشيغان واستعاضوا عن ذلك بصوت "غير ملتزم"، بأن يتم السماح لممثلي "غير ملتزم" بالادلاء بخطاب في المؤتمر العام، وهو ما دفع القيمين على المؤتمر الديموقراطي الى الرد بأنه لا يمكن ”لغير ملتزم“ ترشيح هاريس أن يدلي بخطاب في مؤتمر الالتزام بترشيح هاريس للرئاسة.
 
هي بديهيات لم يفطن لها الفلسطينيون الأميركيون، فوقفوا في أقصى اليسار، وهللوا لطغاة العالم من أعداء الولايات المتحدة، وشككوا بالجمهورية الأميركية، ولم يرفعوا العلم ولا تباهوا بالدستور، ثم استغربوا كيف لم ينالوا وقتا تحت الأضواء في المؤتمر الديموقراطي، وهو ما فسّروه — على العادة العربية المعروفة — بالمؤامرة ضدهم.
 
النموذج الفلسطيني العربي هو نفسه على مدى القرن الماضي: الاصرار أن روايتهم هي حقيقة مطلقة، وأن من لا يوافق عليها هو متآمر متعامي عن الحقيقة عن قصد. ثم يقومون بادعاء المظلومية، واستغراب سبب عدم تفاعل الآخرين مع هذه المظلومية والهرع لايقافها وانقاذهم، وتعييب المتقاعسين.
 
الدول والسياسات لا تمشي على هذا الشكل، والشعوب لا تحب من يعيبها أو يتهمها بالتقصير الاخلاقي. الشعوب تحب من يحبها، وتناصر من يناصرها. لو أظهر الفلسطينيون حبهم لأميركا والرأسمالية الليبرالية والغرب عموما، لتفاعلت أميركا والغرب أكثر مع مشاكلهم. ولكن تعييب أميركا على أنها دولة احتلال واستعباد وانحطاط اخلاقي، وعدم التصويت للمرشحة الرئاسية ثم المطالبة بادلاء خطاب في مؤتمر ترشيحها، كلها ضوضاء يخالها الفلسطينيون سياسات فيما هي نفس الفوضى التي انجبت النكبة التي يعيشها الفلسطينيون منذ عقود.
 
حتى جيل ستاين، مرشحة الرئاسة الأميركية عن حزب الخضر التي لا تتمتع بأي شعبية في أميركا بسبب علاقتها برئيس روسيا فلاديمير بوتين (على غرار مرشحة فرنسا اليمينية للرئاسة مارين لوبن)، لم تنجح في استقطاب الفلسطينيين الأميركيين بسبب تشددهم، فانهارت المحادثات التي كانت تجريها مع الفلسطينية الأميركية نورا عريقات لتترشح الى جانبها لمنصب نائب رئيس.
 
الحزب الديموقراطي عاد الى أميركيته، فيما خرج الفلسطينيون الأميركيون — على عادتهم — خالين الوفاض، ولم يتعلموا الدرس الذي يبدو أنه عصيّا عليهم منذ عقود.
 
* باحث في مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم