من الذلّ وإلى الذلّ نعود لبنان بين المطرقة والسندان

إن حجم ونطاق الكساد المتعمّد الذي يشهده لبنان حالياً يؤدّيان إلى تفكّك الركائز الرئيسة لنموذج الاقتصاد السياسي السائد في البلاد منذ انتهاء الحرب الأهلية. يتجلَّى هذا في انهيار الخدمات العامة الأساسية، واستمرار الخلافات السياسية الداخلية المُنهكة، ونزيف رأس المال البشري وهجرة الكفاءات على نطاق واسع.
وفي موازاة ذلك، تتحمل الفئات الفقيرة والمتوسطة العبء الأكبر للأزمة، وهي الفئات التي لم يكن النموذج القائم يُلبّي حاجاتها أصلاً.
يُقدِّر تقرير المرصد الاقتصادي للبنان أن إجمالي الناتج المحلي الحقيقي هبط بنسبة 10.5% في الـ2021 في أعقاب انكماش نسبته 21.4% في الـ2020. وفي الواقع، انخفض إجمالي الناتج المحلي للبنان من قرابة 52 مليار دولار أميركي في الـ2019 إلى مستوى متوقّع، قدره 21.8 مليار دولار أميركي في الـ2021، مسجِّلا انكماشاً نسبته 58.1%، وهو أشدّ انكماشٍ في قائمة تضمّ 193 بلداً.
خسرت الليرة اللبنانية 90% من قيمتها منذ أكتوبر/تشرين الأول 2019، ممّا أضعف قدرة الناس على الحصول على السّلع الأساسيّة، بما يشمل الطعام، والمياه، والرعاية الصحية، والتعليم. تسبّب نقص الوقود بانقطاع الكهرباء على نطاق واسع، لمدّة تصل إلى 23 ساعة في اليوم. لم تتمكّن المولّدات الخاصّة – وهي بديل مُكلف – من سدّ الفجوة، ممّا أغرق أجزاء كبيرة من البلاد في الظلام لعدّة ساعات في اليوم؛ بالكاد تمكّنت المستشفيات، والمدارس، والأفران من العمل وسط هذا الانقطاع.
ألغت الحكومة اللبنانية أو خفّضت الدّعم عن الوقود، والقمح، والأدوية، وغيرها من السّلع الأساسيّة، لكنّها لم تُنفّذ خطّة حماية اجتماعيّة ملائمة لحماية السكّان ضعاف الحال من تأثير الزيادات الحادة في الأسعار.
بعد عقود من سوء الإدارة والفساد من قبل الدولة في مرفأ بيروت، نسف أحد أكبر الانفجارات غير النووية في العالم المرفأ في 4 أغسطس/آب 2020، وأصاب أكثر من نصف المدينة بأضرار. نتج الانفجار من تفجّر أطنان من نيترات الأمونيوم، وهي مركّب كيميائيّ قابل للاحتراق يُستخدم عادة في الزراعة كسماد ذي نسبة عالية من النيتروجين، لكن يمكن أيضاً استخدامه في صناعة المتفجرات. تسبّب انفجار مرفأ بيروت بمقتل 219 شخصاً على الأقلّ، وبإصابة سبعة آلاف آخرين، وأُلحقت بالمئات إعاقات دائمة.
تُشير مراجعة "هيومن رايتس ووتش" لمئات الصفحات من الوثائق الرسمية بقوّة إلى أنّ بعض المسؤولين الحكوميّين كانوا على دراية بالكارثة القاتلة، التي يُمكن أن يتسبّب بها نيترات الأمونيوم في الميناء، وتساهلوا ضمنياً مع هذا الخطر على حياة البشر. يرقى ذلك إلى مستوى انتهاك الحق في الحياة بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان.
استمرّ القادة اللبنانيون في عرقلة وتأخير التحقيق الجاري، ممّا يحمي مسؤولين كباراً من المحاسبة.
في فبراير/شباط 2021، نحّت محكمة القاضي الذي عُيّن لقيادة التحقيق بعد أن رفع وزيران سابقان، كان قد وجّه إليهما تُهماً، شكوى ضدّه. بالرغم من تعيين القاضي طارق البيطار خلفاً له بعد يوم واحد، فإنّ المنظومة السياسية بدأت بشنّ حملة ضدّه أيضاً بعد أن تقدّم بطلبات لتوجيه اتهامات أو استدعاءات لاستجواب مسؤولين سياسيين وأمنيين كبار. في أكتوبر/تشرين الأول، قُتل سبعة أشخاص، وأصيب عشرات الآخرين بإطلاق نار أثناء مظاهرة دعا إليها "حزب الله" وحلفاؤه للمطالبة بتنحية البيطار( حادثة الطيونة).
وبحسب البنك الدولي، فإنّ الأزمة المالية والاقتصادية في لبنان تسبّب بها "التعامل السياسي غير الملائم والمتعمّد" من قبل السّلطات اللبنانيّة.
ففي الـ2019، قرّرت الحكومة دعم الواردات الحيويّة، مثل الوقود، والقمح، والأدوية. لكن الأموال نفدت في الـ2021، التي خصّصها مصرف لبنان لهذه الواردات، فعانى السكّان من نقص حادّ في هذه الموادّ. تسبّب نقص الوقود بانقطاع الكهرباء على نطاق واسع، لفترات تصل إلى 23 ساعة في اليوم. كافحت المستشفيات، والمدارس، والأفران للعمل وسط هذا الانقطاع في الكهرباء، واضطرّ السكان إلى الوقوف في طوابير طويلة للحصول على الضروريات، مثل الوقود والخبز.
إن آثار الأزمة على حقوق السكّان كانت كارثيّة وغير مسبوقة. تقدّر الأمم المتحدة أنّ نسبة السكّان الذين يعيشون في الفقر بلغت 78% حتى مارس/آذار الـ2021، أي ثلاثة أضعاف النسبة المقدّرة في الـ2020. يعيش 36% من السكّان أيضاً في الفقر المدقع، بعد أن كانت النسبة بحدود الـ8% في 2019، و23% في الـ2020.
لم تقدّم الحكومة اللبنانية أيّ دعم يُذكر للعائلات التي تكافح في مواجهة الأزمة الاقتصادية، التي تفاقمت بسبب جائحة "كورونا"، ولجأت إلى قرض من البنك الدولي بهدف توفير إغاثة طارئة للّبنانيين ضعاف الحال، وأجّلت بشكل متكرّر برنامج البطاقة التموينيّة لمساعدة العائلات على مواجهة رفع الدّعم.
كذلك يستضيف لبنان نحو 900 ألف لاجئ سوري مسجّل، في الوقت الذي تقدّر الحكومة أنّ 500 ألف آخرين يعيشون في البلاد بشكل غير نظاميّ؛ و20% فقط من اللاجئين السوريين في لبنان لديهم إقامات قانونية. وبالرغم من أنّ الحكومة اللبنانية مستمرّة في إعلان التزامها بمبدأ عدم الإعادة القسريّة، فإنّا رحّلت أكثر من ستة آلاف سوري في السنوات الأخيرة. بحسب "لجنة الحوار اللبناني - الفلسطيني"، هناك تقريباً 174 ألف لاجئ فلسطيني يعيشون في لبنان.
يعتبر الشروع في إصلاح شامل ومنظّم وسريع لقطاع الكهرباء خطوة بالغة الأهمية لمعالجة التحديات الطولية الأمد والمعقّدة لهذا القطاع، الذي يبقى في صميم مسار الانتعاش الاقتصاديّ والاجتماعيّ في لبنان. إضافة إلى ذلك، يحتاج لبنان إلى تكثيف الجهود لضمان تقديم مساعدات الحماية الاجتماعية للفقراء والأسر الأكثر عرضة للمخاطر والتي ترزح تحت وطأة الأزمة الاقتصادية المستمرة.