لسّى فاكر....

كانت عادة شبه يومية عند كلّ مساء أن يجتمع الجيران في ساحات البيوت، ويكون كلّ شيء معدّاً مسبقاً بانتظار السّاعة الخامسة. يتحلّق الجميع حول الراديو، وما أن تنطلق الأغنية حتى يعمّ صمت هائل، والويل لمن يتكلّم!
كان هذا طقساً عاماً، يجتمع عليه جميع الجيران، وأظنّ جميع البلد، وحتى سكان الوطن العربي؛ كانت توحّدهم هذه الأمسية، وهذا الطقس... إنّها "أمّ كلثوم" من إذاعة "صوت العرب"
بالنسبة لي لم أكن أحبّها بل أهاجم كلّ من يسمعها. فقد كانت هناك إشاعة يتناقلها المتطرّفون في الفكر وأصحاب نظرية المؤامرة، وكنت أنا منهم، أنّ "أمّ كلثوم" كانت سبباً مباشراً لنكسة حزيران، وأنّ أغاني "أم كلثوم" هدفها تخدير الشعب العربي.
المرة الأولى التي أثرت فيّ أغنية لـ"أمّ كلثوم" لم تكن بصوتها بل بصوت ممثلة تونسيّة، لعبت دور البطولة في فلم "صمت القصور". مع بداية الفيلم، صدح صوتها الحزين بأغنية لسّى فاكر.. وأحببت بعدها هذه الأغنية، وبقيت أردّدها بشكل متكرّر حتى كرهتها.
جارتي تعمل كراقصة محترفة، وتعتقد أنّ لها صوتاً جميلاً، وقد يكون كذلك، ولكن أذني ليست موسيقيّة لأستطيع التمييز، وكنت مجبراً دائماً على إلقاء صفات الاستحسان عليها، لأنّها تهتمّ دائماً بوجبة غداء لي ممّا تطبخ،
وهي مغرمة جداً بـ"أمّ كلثوم". فكنت دائماً ما أناديها بكوكب الغرب لكوننا نعيش في النمسا، فتسبل عينيها لي، وتتغنّج وتناولني صحن الغداء اليوميّ، فلا أقبل ذلك إلا إذا أسمعتني مقطعاً، وبعدها أردّد يا سلااام! فتركض خجلة إلى بيتها كطفلة محرجة... بصراحة للضرورة أحكام!
واستمرّ ذلك طويلاً إلى أن أتت زوجتي في زيارة قصيرة، فكانت تغنّي بشكل يوميّ بصوت عالٍ حتى أسمع "لسى فاكر قلبي يديلك أمان ...". وبعدما سافرت زوجتي، استمرّ حرماني من وجبة الغداء، وفوق هذا ظلّت تردد بصوت يُشبه صوت رجل مدخّن "لسّى فاكر"...
حين انتقلت إلى منزلي الجديد، شاءت الأقدار أن تكون شرفة منزلي مقابل شرفة أسرة عربية. كانت الزوجة ضئيلة الحجم، وتبدو كطفلة، بالرغم من أنّها في الأربعين من عمرها، ولكنّها ما زالت تحتفط بشيء من جمالها. بالمقابل، كان زوجها ضخم الجثة، أشعث، دائم التدخين والتعصيب، فلا أسمع من حديثهما إلا صراخه، ولم يحدث أن سمعت صوتها حتى ظننت أنّها خرساء.
كعادتي في الصباح، أشرب القهوة على الشرفة بشعري الأشعث، وعينين متورّمتين من السّهر. وانتبهت في ما بعد إلى أنّها تتعمّد الوقوف طويلاً على شرفتها، مرّةً لنشر الغسيل ثمّ جمعه، ثمّ إعادة نشر نفس الغسيل. وكنت أعتقد أن ذلك تفعله تنفيذاً لأوامر زوجها، إلى أن لاحظ أحد أصدقائي ذلك، فقرّرت أن أنتبه. وفعلاً، كانت تسترق النظرات إليّ وتبتسم، ثمّ تتنهّد بحرقة. كان قلبي يؤلمني لأجلها. لا بدّ أن البُكم يمتلكون مشاعر أكثر منّا لعدم قدرتهم على الصراخ أو التعبير بالكلمات!
وطويلاً، استمرّت بيننا تبادل الابتسامات والتحية الخجولة كلّ صباح، وكنت أفعل ذلك من باب اللباقة والتضامن.
إلى ذلك اليوم حين جاءت صديقة لزيارتي. وقفنا ندخّن على الشرفة، وحدثتها عن جارتنا المظلومة من زوجها، وعن خرسها وعدم قدرتها على الكلام. وفي هذه اللحظة، ظهرت جارتي الخرساء من شرفتها، فابتسمنا لها للتحيّة، فتجمّدت في مكانها، وبدأت تنتفض، وعلامات الغضب على وجهها، وصرخت بصوتٍ عالٍ: خائن، خائن، خائن...
أصابنا الذهول، وهربنا إلى الداخل. إذن هي ليست خرساء! في الحقيقة، ما يزعجني أنّني إلى اليوم، من الصباح إلى المساء، لا أستطيع الخروج إلى الشرفة ومجبرٌ على سماع "أم كلثوم"، وهي تنوح بـ"لسّى فاكر قلبي يديلك أمان...".