غابريال اندريا
يُصادِف يوم الإثنين 7 تشرين الثّاني، ذكرى مرور شهر على غياب المربية فلاندريا كالوييرو، المديرة السّابقة لمدرسة الأقمار الثّلاثة. غابت فوندا، السَّيّدة الأرثوذكسيَّة الأَنيقة، بصمتٍ هادئٍ ورقيٍ فريد. غابت ابنة الأشرفيّة الحامِلة في إطلالتها كلَّ الوقار، والحاضنة في قلبها الرَّحوم، المُحِبّ، والطّافح بالإيمان كلَّ أفراح طلابها ومآسيهم. غابت "ستّ الكلّ" تاركةً خلفها سيرةً عطرةً، وذكرى طيّبة، وروحاً نقيّةً، وميراثاً من القيم والمُثُل النّبيلة.
كم هي قاسية لحظات الوداع والفراق، التّي تبقى محفورة في القلب والذّاكرة، وكم نشعر بالحزن وفداحة الخسارة والفجيعة ونحن نودّع واحدةً من جيل المربين والأساتذة الافاضل المؤمنين بالرّسالة التّربويّة العظيمة، النّاكرينَ الذاتَ، من ذاك الزمن الجميل البعيد. من عرف السّيدة فلاندريا، عميدة مدراء مدارس بيروت الارثوذكسيّة، شهد لها بالصّبر والإيمان والخُلق الرّفيع. عرفنا الفقيدة معلمةً هادئةً، متسامحةً، راضيةً بكل ما حمله القدر لها، قنوعةً بما لديها، ملتزمةً بإنسانيتها كما هي ملتزمة بتعاليم دينها وإيمانها. حملت الأمانة بإخلاص، وأعطت للحياة والنّاس وحبّها وجهدها وخبرتها وتجربتها. تمتعت بخصال ومزايا حميدة جُلّها الإيمان ودماثة الخلق وحسن المعشر وطيبة القلب، والتّواضع الذي زادها احتراماً وتقديراً ومحبة في قلوب النّاس والطّلاب وكلّ من عرفها والتقى بها. وهل من ثروة تبقى للمرء بعد مماته أكبر من محبة النّاس؟
في الإدارة والتّعليم: خمسون عاماً أمضتها في مدرسة الأقمار الثّلاثة، بفرعيها في الأشرفيّة والجميزة، والتّي شرّفتها وتشرفت بها، فكانت رسولة علمٍ ومعرفة، وجدول عطاءٍ وتضحية. تُخبِر فوندا، كما أَحَبَّت أنّ تُنادى، كيف استدعاها الأب أغناطيوس هزيم، مدير ومؤسس مدرسة البشارة الأرثوذكسيّة، والأستاذ ألكسي بطرس، المسؤول عن المدارس الخيريّة الأرثوذكسيّة في بيروت، لتتولى مهام تدريس اللغة الفرنسيّة في مدرسة البشارة عام 1955 وبعدها بقليل، لتكون مديرة لمدرسة الأقمار الثلاثة. يومها، هابت ابنة العشرين ربيعاً، كيف لشابة في ريعان شبابها أن تدير مدرسةً يفوق عدد طلابها الأربعمئة طالب، جُلّ أساتذتها يفوقها بالسّن عقوداً؟ هي التّي لم تملك يوماً خبرةً في الإدارة أو المال أو حتى التّعليم، كيف لها أن تصبح بين ليلة وضحاها مؤتمنةً على أجيال من الشّباب ومستقبلهم؟ لم تُخفِ فوندا أنّها كانت تنمو في العلم والحكمة مع طلابها، تتشارك معهم اللحظات الجميلة والتّجارب المؤلمة. سَأَلتُها يوماً عن أجمل محطة لها في مسيرتها التّعليميّة، فكان الجواب بدون أيّ تردد حفلات أطفال الرّوضة في نهاية كلّ عام دراسي، وفرحة الأمهات بأولادهن وهم يرقصون وينشدون ما تعلموه من أغاني وأهازيج. في المقابل، تتحدث عن الحرب اللبنانيّة، وتحويل فرع الجميزة الى ثكنة عسكريّة والأضرار الهندسيّة التّي لحقت بذاك البناء التّراثي الفريد، كأشدّ الذكريات ألماً وحسرةً في قلبها. مفخرتها؟ أنّها أسست أوّل دار حضانة في الأشرفية للأطفال ما دون الثلاثة أعوام، والتّي أسهمت في جذب مئات العائلات من سكان الجوار وبيروت إلى صفوف مدرستها. هدفها الدّائم كان أنّ تبقى وفيّة للوزنة التّي أوكلت إليها، أنّ تنقل القيم والمبادئ والتّعاليم التّي تربّت عليها إلى أطفال رأت فيهم أُسُساً لبناء غد أرادته أجمل مما حصلت عليه يوم كانت هي في عمرهم...
علاقتها بالكنيسة: سنوات الحرب الطويلة والبشعة، وما رافقها من هموم ومسؤوليات تجاه الطلاب وذويهم، لم تشغلها يوماً عن الالتزام بتعاليم كنيستها وتنمية حياتها الرّوحيّة. كانت تُحَدِثنا، برصانتها وجدّيتها المعهودة، كيف كانت تصطحب الطّلاب كل يوم أحد إلى كنيسة القديس ديمتريوس في الأشرفيّة، ليشاركوا كلّهم في القداس الإلهي. لقد أحبت فلاندريا الكنيسة بشغف وفرح، واعتبرت أن ما تقوم به من تعليم وعمل في المدارس، هو خدمة للكنيسة التّي تنتمي إليها.
علاقتها بالطّلاب: أخبرتني فلاندريا أنّها نادت مرةً أحد التّلاميذ وقالت له "ما بالك حزينًا، لم أعتد رؤيتك في هذه الحال!" فأخبرها عن وضعه ومشاكله، فطلبت منه ألّا يعود إلى صفّه قبل أنّ يتنشق الهواء أو يجري في ملعب المدرسة، حتى يُفرِغ كلّ الحزن والشّحن من داخله، وغالباً ما كانت تقف في صفّ التّلاميذ بوجه النّظّار الذين ورثتهم عن الإدارات السّابقة وعقلياتهم الغابرة. كانت أولى الواصلين في السادسة صباحاً لتستقبل كلّ تلميذ عند مدخل المدرسة، وآخر المغادرين عند الخامسة مساءً، بعد أن تتأكد أنّ كلّ التّلاميذ قد أنجزوا فروضهم المدرسيّة. لم تكن إدارتها للمدرسة مجرّد وظيفة بل انتماء مطلقاً للإيمان والقيم الكنسيّة التّي تربت عليها، فهي لم تَسعَ يوماً إلى طرد الكسالى من بين الطلاب، أو الاكتفاء بالمتفوقين فقط بغية رفع نسبة نجاح مدرستها في الامتحانات الرّسميّة، بل كان هاجسها دوماً كيف تعيد الرّاسبين إلى الطّريق المستقيم.
من يقرأ في كتاب تاريخ مدرسة الأقمار الثّلاثة، الممتد من العام 1835 حتى يومنا هذا، لا يمكنه إلّا أنّ يتوقف مطولاً عند مسيرة نصف قرن خدمت فيها فوندا دون كلل أو ملل، معطية كل ما لديها بلا حدود، في مهنة ورسالة هي من أصعب المهن وأهمّ الرّسالات، رسالة العِلم والتّربية. تلاميذها شهدوا لها بأنّها القدوة والنّموذج والمثال الذي يُحتذى في البساطة والوداعة والرّقة والعطف والحنان وعمل الخير وسمو الاخلاق وطهارة النّفس والرّوح ونقاء القلب والعفويّة والتّسامح.
في وداع فلاندريا، نقول لها نامي مرتاحة البال والضّمير، فقد أَدَّيتِ الأمانة وقُمتِ بدورك على أحسن وجه، والأناس الصّادقون أمثالك لا يموتون. وما لي في وقفة الوداع الأخير، سوى أن أقترض من الشّعر هذه الأسطر، قالها شاعر النّيل حافظ ابراهيم في رثاء صديقه أمير الشّعراء احمد شوقي:
"اليَومَ هادَنتَ الحَوادِثَ فَاِطَّرِح عِبءَ السِنينِ وَأَلقِ عِبءَ الداءِ
خَلَّفتَ في الدُنيا بَياناً خالِداً وَتَرَكتَ أَجيالاً مِنَ الأَبناءِ
وَغَداً سَيَذكُرُكَ الزَمانُ وَلَم يَزَل لِلدَهرِ إِنصافٌ وَحُسنُ جَزاءِ".