بذور السماء في الأعماق

أودّ أن أكتب، ولكن لا أعلم كيف أفسّر ما تختلج به روحي. كلّ ما يحدث لي أثناء رحلتي في هذه الدنيا يدلّ على أنني لست جزءاً منها؛ لست كمعظم سكّانها الذين يعيشون حياة عادية فلا تصدّهم ظروف مماثلة، ولا تحاربهم أقدار مستعصية.
أحيا مثل قلّة من البشر، همّهم المشاعر الطيّبة، وأن تنمو القيم والمحبّة في هذا العالم، وليس هاجسهم المادة والرخاء والسّعي الدائم للوصول إلى المال والسباق نحو أعلى درجات المظاهر والتسلّط والتباهي بحالهم وحال أبنائهم.
هدفي الثابت هو البقاء على سبب وجودي، ألا وهو أن أكون سفير السماء ورسولها في هذا العالم القاسي الظالم، القاتل للإنسانيّة والمحبّة والصدق.
أنا أفكّر بطرق مختلفة عن الكثيرين؛ لذا منهم من يعتبرني غريباً في آرائي وتصرّفاتي، ومنهم من يظنّني بسيطاً مجنوناً، وآخرون يصفون حياتي بأنّها مليئة بالعقد والانعزال والخيال.
نعم، أتفهّم تصرّفاتهم وأفكارهم، ولا ألومهم، لأنهم لم ولن يحيوا ما عشته، ولم يشعروا بما أحسست به وما واجهته، ولم ينمو بأرواحهم قبل أجسادهم، ولم يروا يوماً يد الله كريح تلفح وجوههم منذ الطفولة، ولا نور السماء سراجاً يُضيء دروبهم في أحلك الظروف وأكثرها رعونة وظلاماً في مقتبل أعمارهم. لم يصلوا يوماً إلى جنائن ملكوت الرّب وهم في الأرض بين الناس. لأنني أؤمن بحماية الروح قبل الجسد، وأرى دموع الأطفال المشرّدة في قلبي لا في عيني، ولأنني أشعر بوجع الفقير الجائع في حنايا روحي، وأتحسّس آلام وعذاب المظلوم من قبل ذئاب بشريّة تستميت في مكرها واستغلالها لكرامة الإنسان، للقمة عيشه، لعزّة نفسه وعفّته.
نعم، أفتخر، وأؤمن بما وُلد في مهجتي، وبأنني أتيت لأجل هذه الأمور كلها، وأنني باق على عهدي مع السماء إلى حين موعد العودة إلى موطني الأبدي. في هذا العالم لست وحيداً في ما أحيا وأؤمن به، فهنالك من سبقنا منذ آلاف السنين، ومن هو موجود في زمننا، ومن سيأتي بعدنا في المستقبل، وسنكون الشفق في دجى هذا العالم؛ ولو أنّنا قلّة لا يهمّ أبداً. نحن لسنا بقدّيسين أو أنبياء، فحُلمنا أن نتمكّن من السير على دروبهم، وهم نجمة الصبح لنا في هذه الأرض، ولكن نحيا جاهدين لأن نكون عطور الرياحين للسيدة العذراء، وقنديلاً متواضعاً للسماء؛ ونسعى دوماً لكي لا تقوى علينا التجارب والأقدار فتغلبنا وتطفئنا في مستنقعات الجهل والخطيئة.
أخيراً، في قلب كلٍّ منّا بذور المحبّة والإيمان؛ ولهذا وُلدنا. ولكن المهمة الأصعب أن نجعلها تنمو، فلا تخنقها المصاعب والشهوات والملذّات، ثمّ نموت بين أحضان الجسد وإغراءت هذا المجتمع وماله. فلو انكسرنا مرات عديدة أمام تلك العراقيل فعلينا أن نعود فننهض من جديد لنحمي البذار الطيّبة ونرويها بإرادة صلبة وبإخلاصنا لما وهبه الله فينا...