الأحد - 07 تموز 2024

إعلان

تونس.. الثورة المؤجّلة الجزء الثالث

المصدر: النهار - صبري الرابحي - تونس
في السابق، كانت تونس بنفسجية جدًّا
في السابق، كانت تونس بنفسجية جدًّا
A+ A-
في السابق، كانت تونس بنفسجية جدًّا، وكانت بروبڨندا النظام آنذاك تسطو على محاولاتنا الطفوليّة لفهم الظواهر. كان كلّ شيء يسير في اتّجاه واحد، وهو المحافظة على النظام واحتفاظ النظام بالحكم. حتّى أنّ كلّ محاولات التشهير بممارساته كانت تقع بين شرّين، الأوّل هو القمع البوليسيّ لمجرد المحاولة، والثاني هو التخوين متى تمّ اختيار منافذ الرأي العام الدوليّ. لقد كان النظام بارعًا في تصنيف أعدائه بين مناوئي الداخل المحتجزين في فضاء عامّ ضيّق، ومناوئي الخارج المتحرّرين من قبضة النظام غير بعيد عن ناظره وأقرب أحيانًا إلى يديه، و"سليم بڨة" خير مثال عن ذلك. كان نظام بن علي يمارس رقابته على الإعلام والرأي والمنشورات، لقد كان مقتنعًا بأنّ الفكر سلاح مدنيّ صامت قادر على هزّ عرش الحكم بقوة الحجّة، لذلك استطاع أن يحيط نفسه بكوكبة من الأكاديميين الذين ارتضوا لأنفسهم تلك الأدوار المشبوهة التي وصلت إلى حدّ شرعنة النظام، وإسعافه بالامتداد في الزمن تحت مسمّيات عدّة. ليخرجوا علينا الآن بطهوريّة لم تعد تنطلي علينا، بعد أن افتضّ النظام أمانتهم. فإمّا أن يكفّوا عنّا كذبهم، أو أن نكفّ عنهم ذاكرتنا التي تلطّخت بإجرامهم.. غير بعيد عن جراح وطن لم تندمل. هذا الوطن الذي توقفت ساعته عند ثالوثه المقدّس ذات شتاء، شغل، حرية، كرامة وطنية، ومع شعاراته هذه التي أرادها أن تكون مركزًا لأيّ عملية إصلاح مفترضة. لم يغادر تلك المرحلة ولم يكن انتقاله إلّا انتقالًا ديمقراطيًّا كما أريد له أن يسمّى في نشرات الأخبار. لا يتذكّر التونسيّون أنّ الحائل بينهم وبين حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية هو دستور 59، لذلك لم يكن مطلب المجلس الوطني التأسيسي سوى مطلبًا سياسيًّا نخبويًّا أجمعت عليه النخب التي أرادت أن تحكم أكثر من أن تصلح النظام السياسي الذي لا يزال متعثّرًا إلى حدّ الساعة. هذا المجلس وإن اعتبره الأكاديميّون سلطة تأسيسيّة أصلية للشرعيّة الدستورية، تحول بنهم الأحزاب السياسية إلى قاعدة بسط النفوذ على الحكم وعلى وسائل الدولة، لذلك استتبعته واقعيًّا الأطراف السياسية الحاكمة نفسها، والتي تصدّرها حزب حركة النهضة، الذي تواصلت هيمنته على الساحة كلّ هذه السنوات. حزب النهضة ناور كثيراً واصطاد فرصة الاحتكاك بالأحزاب التقدّمية التي لم تخفِ حنينها إلى جبهة 18 أكتوبر الشهيرة، لتسرق النهضة جبّة الحداثة وتنتهي هذه الأحزاب إلى شظايا متناثرة، وهو مصير حزب المؤتمر من أجل الجمهورية والتكتّل وحتّى نداء تونس لاحقًا. من هذا المنطلق أخفت النهضة علاقتها بالحكم، بأن وضعت في الواجهة السياسية حلفاءها لتتقاسم معهم غنيمة الحكم. ولا تخلص إلى خسائرهم بل تستثمرها سياسيًّا وتبحث لها عن بدائل أخرى. الغريب أنّ الشباب أنفسهم الذين لهثوا لإسقاط بن علي وزعزعة قبضته البوليسيّة على البلد لأكثر من عقدين، هم أنفسهم من هبّوا لبسط هيمنة النهضة وشركائها على مفاصل الدولة والتمكين فيها، وفي المقابل اختاروا العنف الاجتماعيّ بين الإجرام والإرهاب وحتّى الهجرة غير الشرعية. هؤلاء، نجح الوضع العام في إقناعهم بغياب أيّ دور مفترض لهم لتغيير الواقع، حتى تأكّد لديهم أنّهم لم يعودوا يصلحون لإعادة ترتيب المشهد. فذلك النظام الذي تهاوى أثناء الثورة ولم يسقط، أعاد الوجوه القديمة واستقدم الوجوه المختفية وراء أقنعة سياسية يعلم الجميع أنّها كانت "ديكوريّة" في زمن بن علي، وأعاد تدويرها وفرضها في المشهد حتّى استمعنا ذات يوم إلى نقاشات حول أحقيّة حزبَي النهضة والنداء المتحالفين في أعقاب حكم المجلس التأسيسيّ، بإرث عبد العزيز الثعالبي ذلك الزعيم الدستوريّ الرائد في الحركة الوطنية، حتّى صارت تونس لا تصلح إلّا لحكم الدساترة المتدثّرين بالحداثة تارة وبالإسلام السياسيّ طورًا، وكأنّما لم تنجب تونس غيرهم.
كلّ هذه التجارب وما تبعها حتّى زلزال 25 جويلية الذي أحدث به قيس سعيد شرخًا جديدًا في علاقة التونسيين بثورتهم، جعلت منهم يتساءلون في كلّ مرّة متى تتحرّر مطالبهم من هذا التأجيل المتعمّد الذي جعلهم لا يحسّون أنّهم قد أنجزوا "ثورة" أصلًا.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم