خيال صحرا… بين البسمة والدمعة

بين عبثية الحرب الموجعة، وخفة ظلّ جورج خباز وقف الدمع في العين متجمداً. تارةً يسقط قسراً، وطوراً يحبس نفسه خلف ابتسامة مباغتة، لأن خباز أراد في قرارة نفسه، ألّا يحوّل نصّ مسرحيته الى "ورقة نعوة" يراكم من خلاله على المواطن حزناً فوق حزن. سيّما وأنّ من اختبر تلك الحرب السوداء ما يزال الى الان يعاني تبعاتها نفسياً أو جسدياً.
منذ اللحظة الأولى لدخولك المسرح تتنبّه الى دقّة التنظيم في كل شيء لناحية مراقبة قرار منع تصوير المسرحية، وصولاً الى التوقيت الدقيق لانتهاء العمل.
مع بدء العرض تنجذب الى مشهدية الصورة للحرب، التي استحضرها خباز من ذاكرة التاريخ الذي عايشه هو نفسه وشريكه في العمل عادل كرم كونهما من جيل اختبر هذه الحرب وعانى مرارة فصولها.
وأنا أراقب أكياس الرمل المرصوصة على الجانبين المتخاصمين أي ما يعرف "بخطوط التماس". ينتابك ألمٌ من شريط ذكرياتٍ مليء بالمعاناة والخوف والعوز الذي سبّبتها هذه الحرب المجنونة التي لم توفّر أحداً.
فالنقص في الكهرباء والماء والخبز والبنزين كلّها مصائب تشاركها "الشعبين" من الجهتين الشرقية والغربية. وحدهم زعماء الميليشيات، يبقون في منأى عن الموت والعوز والتهجير بعد أن تحصّنوا في قلاعٍ عصيّة على البرد والجوع.
ساعة وعشرون دقيقة من الوقت تمّر كلمح البصر، لأنّ خباز مع كل شطحة ألم من هذه الذكرى، يجهد في أسلوبه المبدع والقريب الى القلب، كي ينتزع منك الضحكة المطلوبة، ويسحبك من داخلك الى البسمة البريئة من غير أن يسمح لمخيلتك أن تقودك من جديد الى ذاك الماضي الأليم.
ساعة وعشرون دقيقة فنّد جورج خباز مع رفيقه عادل كرم مجلّد الحرب اللبنانية وخيباتها وقناعاتها لدى الطرفين المسلم والمسيحي، ودوافع وقناعات الجهتين في مقاربتيهما وأحلامهما من خوض غمار هذه التجربة التي بينّت للفريقين عبثيتها وجنونها، وهنا يستحضرني قولٌ للصحافي ميشال أبو جوده حين قال مع بداية الحرب اللبنانية جملته الشهيرة: "إنّ الحرب داخل لبنان هي عملية انتحارية لن يستفيد منها أحد."
لقد استحضر جورج خباز في عمله كل مراحل الحرب بدءاً من أكياس الرمل الى شاشات التلفزة في القناتين المنفصلتين، 5 و7، الى معاناة المتحاربين وحماستهم لخوض غمار حربٍ لا يعرفون كيف بدأت ولا كيف ستنتهي.
لكن، مع سوداوية الحرب ونتائجها، أضاء خباز على صداقة جميلة نشأت بين مقاتلين "عدوّين" الأول مسلم والآخر مسيحي تقودهما أحزابهما الى حربٍ يرفضانها عاطفياً ضمناً، لكنّها تسيّرهما غرائزياً علناً.
استذكر جورج خباز في ذكاءٍ لافت مفردات الانقسام الداخلي، التي يستخدمها كلا الفريقين وحذّر منها بطريقته المحبّبة كي لا ينزلق اليها المجتمع من جديد، خصوصاً وأنَّ قسماً كبيراً يستخدمه الآن على مواقع التواصل الاجتماعي، منبّهاً من الانفلات اللا أخلاقي الذي يعزّز الفرقة فينحدرَ صوبَ حربٍ قد تكون أكثر ضراوة.
في قراءة هادئة وهادفة للحرب، وجّه مسرح جورج خباز دعوة الى كلّ مواطن، كي لا يكون "خيال صحرا" في الحرب، بل أن يكون "الصورة الحقيقية "للسلم".

ليليان خوري