"تلغرام"... الصراع حول الحرّيّة الفرديّة والمحتوى المتطرّف

ألقت السلطات الفرنسية القبض على بافيل دوروف، المؤسس الشهير لتطبيق "تلغرام"، في مطار "لو بورجيه" بالقرب من باريس، مساء يوم السبت الماضي، ما أثار جدلاً واسع النطاق. وقد اعتُقِلَ بناءً على مذكرة توقيف دولية، ويُتهم دوروف بتهم خطيرة تتعلق بالسماح لمنصته بأن تضحي ملاذاً لتجار المخدرات والمجرمين الجنسيين، من دون وجود رقابة كافية.
تُجرى التحقيقات حالياً حول الادعاءات المتعلقة بالإشراف غير المناسب على التطبيق، بطريقة سهلت انتشار الأنشطة الإجرامية مثل الإتجار بالمخدرات والاستغلال الجنسي للأطفال. وقد أثار هذا الحادث القلق بين المدافعين عن حرية الإنترنت ممن رأوا في سياسات "تلغرام" الرقابية المتساهلة تهديداً للحريات الشخصية.
 
 

"تلغرام"... الانطلاقة الأولى

خلال عام 2013، ظهر تطبيق "تلغرام" كوسيلة جديدة واعدة للتواصل، مُتضمّناً وعوداً بتجربة تواصل أكثر سلاسة وخصوصية. ونجح التطبيق في استقطاب ملايين المستخدمين حول العالم. واشتهر بسهولة استخدامه ومستوى الأمان الذي يوفره. وقدَّمَتْ ميزة الدردشة فيه نافذة للتعبير الحر في الدول التي تعاني قمع الحريات. ومع ذلك، وبمرور الزمن، أصبحت السياسة المُتساهلة للتطبيق في تنظيم المحتوى محط نقاش، حيث وجدت الحكومات فيها فرصة للتصدي للمعلومات المضللة التي يمكن أن تُشكّل خطراً على الاستقرار الاجتماعي.

ما هو تطبيق "تلغرام"؟ 

"تلغرام" هو تطبيق للتواصل الفوري يشبه “واتساب” في عدد من الجوانب، لكنه يحوز ميزات فريدة مشابهة لتلك المتوفرة في “إكس” و"فايسبوك". يُستخدم على نطاق واسع حول العالم كوسيلة للتواصل اليومي. إذ يُتيح للمستخدمين إمكانية نشر القصص، إنشاء مجموعات نقاشية، أو تأسيس قنوات تجذب أحياناً ملايين المشتركين وتُصبح نقاط تأثير هامة في مجال تداول الأخبار والمعلومات. يُطلب من المستخدمين الجدد التعهد بعدم إرسال رسائل غير مرغوب فيها، ممارسة الاحتيال، التحريض على العنف، أو توزيع محتوى مخل بالآداب يخالف القانون. ومع ذلك، يُلاحظ أن مستوى الرقابة على المحتوى في التطبيق أقل مقارنةً بالمنصات الاجتماعية الكبرى، حيث يقتصر دور المشرفين على التدخل لمنع المحتوى الذي يدعو صراحةً إلى العنف.

ما مدى الخصوصية في التطبيق؟ 

لا تزال هناك تساؤلات حول درجة الأمان التي يوفرها تشفير البيانات على منصة "تلغرام".
وفيما خدمات المراسلة الأخرى مثل "واتساب" و"سيغنال" تستخدم التشفير من طرف إلى طرف كخيار مسبق التفعيل، والذي يعتبر من أفضل الطرق لضمان سرية المحادثات، نجد أن "تلغرام" لم يختر هذا النهج. بدلاً من ذلك، يقدم التطبيق ميزة التشفير من طرف إلى طرف ضمن "المحادثات السرية" مع وجوب أن يبادر المستخدمون إلى تفعيلها كي تصبح في منأىً عن أعين "تلغرام" وأي جهة خارجية. ويعتمد التطبيق في ذلك على بروتوكولات تشفير مميزة له، ما يجعله مختلفاً عن "سيغنال"، حيث يصعب على الخبراء التحقق من دقّة ادعاءات الشركة المتعلقة بالتشفير من طرف إلى طرف، بشكل مستقل.
 


استراتيجيات التطبيق لتحقيق الإيرادات

في عام 2020، أُعلِنَ عن نية تحقيق أرباح من المنصة التي لم تدُر أي إيرادات منذ تأسيسها. وفي عام 2022، أُطلقت نسخة مدفوعة من المنصة تُعرف باسم "تلغرام  بريميوم" Telegram Premium، ما يُمكن المستخدمين من الاستمتاع بمزايا متقدّمة مثل سرعات تنزيل أعلى وإمكانية رفع ملفات أكبر مقابل رسوم. أُدخل أيضاً نظام مكافآت يتيح لمنشئي المحتوى الاحتفاظ بنصف الإيرادات المتأتية من الإعلانات عبر قنواتهم الخاصة. رغم ذلك، يظل المصدر الرئيسي لتمويل المنصة هو المؤسسون.
 
 

أرض خصبة للمتطرفين

على عكس منصات مثل "إكس" و"تيك توك" و"فايسبوك"، هذا التطبيق لا يعتمد على التسلسل الزمني في عرض المحتوى. رغم ذلك، يظل التطبيق يصارع تحديات كخطاب الكراهية والأخبار الزائفة. ويرجع ذلك جزئياً إلى الطريقة السهلة التي يمكن بها مشاركة المحتوى عبر قنواته المتعددة. يمكن للمستخدمين اكتشاف قنوات تغطي مجموعة واسعة من المواضيع، من الثقافة إلى الفنون والسياسية.
وفي المقابل، نظراً لسهولة تداول المحتوى، قد يجد المستخدمون أنفسهم مستهدفين بمواد من قنوات تُعزّز الأفكار المُتشدّدة. ومثلاً، قد يتابع شخص ما قناة مخصصة للتاريخ الثقافي ويجد نفسه يتلقى محتوى من قناة تنشر الأيديولوجيات المُتطرّفة تحت غطاء الثقافة. هذا يمكن أن يعرض المستخدمين للأفكار المتشددة ويحفّزهم على التفاعل مع محتوى قد يؤثر سلباً على وجهات نظرهم وسلوكياتهم.

كيف يوظّف التطبيق في أعمال الشغب؟.. بريطانيا نموذجاً 

في ضوء الحادثة المأسوية التي راح ضحيتها ثلاث فتيات صغيرات في ساوثبورت، شمال إنكلترا، بتاريخ 29 تموز (يوليو)، لوحظ استغلال المتطرفين لقنوات "تلغرام" في نشر البغضاء ضد المسلمين، وتحديد الأماكن والأهداف للتحريض على العنف، وتقديم إرشادات عملية للمخربين المحتملين. هذا ما كشفت عنه دراسة قام بها "معهد الحوار الاستراتيجي"، وهو مركز بحثي مقره لندن يعنى بمكافحة التطرف.
وقد تناولت الدراسة تحليلاً عن 16 قناة ومجموعة بارزة على "تلغرام" تعمل على "نشر واستضافة وإعادة توجيه محتوى ينطوي على عداء للمسلمين والمهاجرين مرتبط بأحداث الشغب". وتبين أنه جرى حذف ست من هذه القنوات التي تأسست كرد فعل مباشر على تلك الحوادث، وذلك في الخامس والسادس من آب (أغسطس) الجاري.