هجوم سيبرانيّ يتحوّل إلى أداة قتل... السيناريوهات تعكُس مرحلة أكثر حساسيّة بين إسرائيل و"حزب الله"

في شكل متزامن، انفجرت بعد ظهر أمس أجهزة الاتصال اللاسلكية "البايجر" التي كان يحملها المئات من عناصر "حزب الله"، في حدثٍ أمني غير مسبوق هزّ الأوساط الأمنية والإقليمية. الهجوم الذي ظنّ الجميع أنّه انتهى أمس، تجدّد بعد ظهر اليوم من خلال سلسلة تفجيرات أخرى استهدفت أجهزة اللاسلكي من بينها "Icom v82".
 
الهجوم يُعدّ تحوّلاً معقّداً في نوعية التهديدات الإلكترونية التي يواجهها الحزب، حيث عكست التفجيرات اختراقاً نوعياً لأساليب الحرب الإسرائيلية. هذا التصعيد يؤكّد أن الأداة الإسرائيلية لم تعد تلتزم بأيّ ضوابط أخلاقية أو تقليدية، ما يفتح الباب على سيناريوهات جديدة ومثيرة للقلق في مجال الأمن الإلكتروني والسياسة الإقليمية.

في عصر تتوفّر فيه الهواتف المحمولة والتقنيات المتقدّمة، الأمر الملفت هو حقيقة أن هذه الانفجارات حدثت من خلال شكل من أشكال تكنولوجيا الاتصالات التي يُنظر إليها على أنها قديمة، والتي يعود عمر أول جهاز منها إلى عام 1921. حدث أمني أقل ما يُقال عنه إنّه الأول من نوعه، ويمكن توصيف ما جرى بأنه لم يعد من الممكن توقّع أسلوب القتل الإسرائيلي بعد الآن. فما هي سيناريوهات حقيقة هذه الانفجارات؟ وما خطورة الحدث؟
 
 
 
بدايةً ما هو "البايجر"؟
 
"البايجر Pager" ويُسمّى أيضاً جهاز النداء الآلي، هو أداة صغيرة تمكّن حاملها من تلقّي رسائل موجزة أثناء تنقّله. في السابق، كان يُستخدم بشكل شائع كوسيلة للتواصل قبل أن تصبح الهواتف المحمولة متاحة على نطاق واسع. وكانت "البايجرز" تعمل على توجيه رسائل نصية أو أرقام هاتفية إلى المستخدم، الذي يمكنه بعد ذلك الردّ على الرسائل باستخدام هاتفه.

"البايجر" جهاز استقبال راديوي صغير، يستجيب بإصدار نغمة أو ذبذبة عندما يتمّ تنشيطه بوساطة إشارة راديوية. يتميز كلّ "بايجر" برقم تعريف خاص به. وتبثّ أجهزة الإرسال الرسالة، بوصفها إشارة راديوية، على تردّد مخصّص، وتصل الرسالة إليه في خلال دقائق وحتّى ثوانٍ. ويعمل جهاز الإتصال فقط داخل المنطقة الجغرافية التي تغطيها خدمات "البايجر".

كذلك، يُشار إلى أنّه في مجال القطاع الطبي، يُستخدم "البايجر" على نطاق واسع في تنسيق جداول المواعيد وتنظيم سير العمل. وفي هذا الإطار، أشار وزير الصحة فراس الأبيض، إلى أنّ العديد من العاملين في المجال الطبي تخلّصوا من أجهزة النداء الخاصة بهم خوفاً من موجة ثانية من الانفجارات.

ومن النظريات المتداولة، أنّه أمكن تفجير الأجهزة المذكورة في مناطق مختلفة من لبنان وسوريا، عبر تفجير بطاريات الأجهزة التي أُخترقت.
 
 
 
هل من الطبيعيّ أن تنفجر بطاريات الليثيوم أيون؟

أكّد خبير التكنولوجيا سلوم الدحداح لـ"النهار" أن "البطاريات التي تُستخدم في "البايجر" هي "nickel-cadmium Battery" أو "Alkaline Battery" أو "Lithium Battery". أول نوعين من البطاريات لا ينفجران، أمّا الليثيوم فيمكن تفجيرها ولكن على درجة حرارة عالية جداً".

انفجارات بطارية الليثيوم أيون نادرة جداً. وعادةً تحدث الانفجارات بسبب عيوب في البطارية، أو بسبب عوامل خارجية، وهو أحد السيناريوهات المطروحة.

وعلى الرغم من أن بطاريات الليثيوم أيون مصممة للعمل في درجات حرارة عالية، إلّا أنّ الحرارة الشديدة قد تتلفها. وتنتج من انفجار بطاريات الليثيوم أيون إصابات وحروق خطيرة جداً.

وفي هذا الإطار، طالبت بالفعل وزارة الصحة اللبنانية من جميع المواطنين الذين يمتلكون أجهزة "pagers" أن يعمدوا إلى رميها بعيداً منهم بشكل فوري.
 
 
 
ما علاقة "غولد أبولو"؟
 
"غولد أبولو" العلامة التجارية التي يحملها الجهاز، في بداياتها، ركّزت الشركة على إنتاج أجهزة الاستدعاء اللاسلكية التي تعتمد على تقنيتي "POCSAG وFLEX"، مستهدفة السوق المحلية في تايوان. مع نهاية التسعينات، وسّعت "غولد أبولو" محفظة منتجاتها لتشمل أجهزة الاستدعاء الأبجدية الرقمية، ما مكّنها من الوصول إلى الأسواق العالمية وتقديم منتجات مبتكرة.
 
هسو تشينغ كوانغ مؤسّس شركة "غولد أبولو"، صرّح اليوم أن "أجهزة البايجرز التي انفجرت  ليست من تصنيع الشركة"، مشيراً إلى أنّ "الأجهزة التي انفجرت صنّعتها شركة في أوروبا لديها الحق في استخدام العلامة التجارية للشركة التايوانية"، مضيفاً: "المنتج ليس تابعاً لنا. إنه يحمل علامتنا التجارية فقط".
 
 
 
 
فصلٌ جديد في الحرب... ما هي الفرضيّات المطروحة؟
 
كشف الخبير في الحوكمة والتحول الرقمي ربيع البعلبكي في حديث لـ"النهار"، أن حجم وقوة الانفجارات يدلان إلى أن ما حدث هو بفعل تفخيخ الأجهزة وتفجيرها في لحظة صفر، عبر إرسال رسالة محدّدة إلى حوالى 3000 جهاز في الوقت نفسه. ولهذا اختلفت الإصابات، فمن كان في منطقة آمنة ليفتح الجهاز ويقرأ الرسالة كانت إصابته مباشرة، أما من كان في منطقة عامة فكانت الإصابة في جسده. وأشار البعلبكي إلى أن من وجهة نظره "انفجار بطارية الليثيوم لا يمكن أن يكون بهذه القوة".

وحذّر من أن هذا الحدث سيؤدّي إلى خسارة الثقة بالعالم الرقمي، وأنّ التهديد أصبح عاماً ويمكن أن يطال أيّ أحد، مضيفاً: "دخلنا مرحلة ثانية في الأمن السيبرانيّ أكثر خطورة، ليس تجسساً أو مراقبة، بل اغتيال جسديّ".
 
 وعلى خطٍ موازٍ، صرّح مصدر أمني لبناني كبير، ومصدر آخر، لوكالة "رويترز" أن جهاز المخابرات الإسرائيلي "الموساد" زرع كميات صغيرة من المتفجرات في داخل 5 آلاف جهاز. وأفاد المصدر الأمني اللبناني أنّ الحزب طلب 5 آلاف جهاز بايجر، من طراز "إيه.بي924". وأنّ الأجهزة تمّ تعديلها "في مرحلة الإنتاج" بتدخّل من جهاز المخابرات الإسرائيلي "الموساد"، الذي وضع لوحاً في داخل الأجهزة، يحتوي على مادة متفجرّة تتلقّى شيفرة من الصعب جداً اكتشافها تقنيّاً بأيّ وسيلة، حتى باستخدام أيّ جهاز أو ماسح ضوئيّ. 
 
وكذلك، رأى المستشار والخبير في مجال الأمن السيبراني رولان أبي نجم، أنه على الرغم من عدم وجود أيّ معطيات مؤكّدة بعد، إلّا أنّ الشبهات حول سبب الاختراق تقع حول "هجمات سلاسل التوريد" "Supply Chain Attack"، إذ من الممكن أن تكون بعض شحنات الأجهزة التي استوردها الحزب كانت مخترقة أو اخترقت وتسبّبت بما حصل. 

وفي السياق عينه، وفقاً لـ"وول ستريت جورنال"، صرّح أشخاص مطّلعون على أنّ أجهزة "البايجرز" المتضرّرة كانت من شحنة جديدة تلقّاها الحزب في الأيام الأخيرة. كما أكّدت "رويتزر" المعلومة بأنّ الأجهزة المنفجرة هي من أحدث جيل جلبه الحزب. واليوم، نقلت الوكالة عن مصدر أمني، أنّ "حزب الله" اشترى أجهزة اللاسلكي المحمولة قبل 5 أشهر في وقت شرائه أجهزة "البايجرز" تقريباً.

وكان مسؤول في "حزب الله" قال، إنّ مئات المقاتلين لديهم مثل هذه الأجهزة، وتكهّن بأن البرامج الضارّة ربما تسببت في تسخين الأجهزة وانفجارها، مشيراً إلى أنّ بعض الأشخاص شعروا بتسخين أجهزة الاتصال وتخلصوا منها قبل انفجارها. 

وإحدى السيناريوهات المطروحة أيضاً، هو احتمال أن يكون تمّ اختراق النطاق التردّدي الذي يستخدمه عناصر الحزب، لا الأجهزة كلّها، خصوصاً أنّ تلك المماثلة مع قوى الأمن والمستشفيات مثلاً، لم تتضرّر بالمجمل. أو أنّ إشارة يمكن من خلالها رفع حرارة الأجهزة لتنفجر بطاريات الليثيوم تمّ تفعيلها، وهذا ما لم يمكن نفيه حتى الآن.

أمّا عن تأثير هذا الخرق أمنياً وتقنياً على الحزب، فتفجير هذه الأجهزة وخصائصها يحرم عناصر الحزب من المزيد من الإمكانيات للتواصل في ما بينهم، وبالتالي سيطرأ ضرر كبير في عملية التواصل في الداخل الحزبي.
 
إن انفجارات الأجهزة اللاسلكية ليست مجرّد حادثة، بل هي مقدّمة لحروب المستقبل. إنها تصف كيف يمكن للحرب السيبرانية أن تتطوّر إلى شيء أكثر فتكاً من القرصنة والتجسس. 
 
خلاصة، تأكيد ما حدث سيكون رهنُ الأيام المقبلة، لكنّ المؤكّد أنّ الحرب بين الحزب وإسرائيل دخلت في مرحلة جديدة أكثر حساسية. ورغم أن الأمن السيبراني التقليدي كان يدور حول حماية الشبكات والمعلومات والخصوصية، فقد أدرك كثيرون أن المستوى التالي سيكون أكثر خطورة.
 
في حين أنّ مساحة المعركة بين الفضاء الإلكتروني والمجالات المادية التقليدية تتلاشى أكثر فأكثر، فإنّ العواقب على أمن الدول والتكتيكات العسكرية والمدنيين ستكون حادة. المفاهيم التي تحتاج إلى مراجعة في ضوء هذا الهجوم ليست مجرد قضايا الأمن السيبراني ولكن قضايا أمن الناس وممتلكاتهم في العالم، حيث كل شيء متصل بالإنترنت ومترابط. فما حدث يفتح الباب لسؤال مقلق حول مدى ثقة الأفراد بعد اليوم وليس الجماعات والمؤسسات فقط، بأيّ جهاز تقني بين أيديهم. فماذا يعني ما حدث بالنسبة إلى الأنظمة التي لدينا في العصور الحديثة، والتي أصبحت أكثر تطوراً بكثير؟ الهواتف الذكية والطائرات من دون طيار وأجهزة الإنترنت، وهي بالفعل جزء من المجتمع اليوم. كلّ هذه التقنيات، إذا تعرّضت لهجوم مماثل، يمكن أن تسبّب كوارث أكبر لم نكن نتخيّلها، مثل ما حدث أمس، وأكثر.