عاد السياسي الإسلامي التونسي راشد الغنوشي أدراجه... إلى صفوف المعارضة.
فبعدما كان سجينا سياسيا اضطر لفترة من حياته للعيش في الخارج قبل ثورة 2011، بات بعد الثورة ذا نفوذ قوي وترأس البرلمان، لكنه ما لبث أن عاد أدراجه تحت منظار تمحيص السلطات، بينما يقبع أحد خصومه في القصر الرئاسي.
وبعد قرار الرئيس قيس سعيد تجميد عمل البرلمان الصيف الماضي وإغلاقه بدبابات ثم بدئه الحكم بمراسيم، اتهمه الغنوشي بتنفيذ انقلاب وأصبح حزبه حركة النهضة من أشد منتقدي الرئيس.
والآن، وبعد أن أحكم سعيد قبضته على القضاء، وضع أحد القضاة الغنوشي قيد التحقيق بشبهة تبييض أموال، وهي اتهامات نفتها حركة النهضة ووصفتها بأنها هجوم سياسي.
ومثُل الغنوشي اليوم الثلثاء أمام قاض في العاصمة لاستجوابه بشبهة غسل أموال، في تحقيق تصفه النهضة بأنه ذو صبغة سياسية.
وقال مسؤول قضائي لرويترز إن القاضي سيستجوب الغنوشي بشأن شبهات غسل أموال فيما يتعلق بدفع مبالغ من الخارج لجمعية مرتبطة بحركة النهضة. وذكرت وسائل إعلام محلية أنه سيجري التحقيق معه كذلك للاشتباه في صلته بالإرهاب.
وفي بيان وزع على وسائل الإعلام قبل مثوله أمام القاضي قال الغنوشي "قيس ووزراؤه وأنصاره يتربصون بي وبعائلتي منذ انقلاب 25 تموز. تندرج التهم الكيدية في إطار تمرير دستور يكرس الاستبداد".
وأضاف أنه حوكم وسُجن في عهدي الرئيسين السابقين زين العابدين بن علي والحبيب بورقيبة وأنه يتعرض الآن "لأبشع أنواع الظلم".
يأتي التحقيق قبل فترة وجيزة من الاستفتاء المقرر يوم 25 تموز على الدستور الجديد والذي تعهد الغنوشي وأعضاء حزبه بمقاطعته، معتبرينه تحركا صوريا يهدف إلى تثبيت أقدام الرئيس على طريق الحكم المطلق.
ويعني هذا أن حركة النهضة وزعيمها الغنوشي يتصدران مرة أخرى مشهد الصراع على مستقبل تونس.
هو في عيون معجبيه، رجل معتدل يجنح للسلم مما ساهم في تفادي تفجر عنف سياسي بعد الثورة ودفع تونس إلى تبني دستور ديموقراطي.
لكن منتقديه يرونه شخصية خلافية لا تحظى بقدر يعوّل عليه من الشعبية، سواء بسبب الانقسامات الأيديولوجية حول الفكر الإسلامي أو بسبب دور حركة النهضة المحوري خلال سنوات الشلل السياسي وسوء الإدارة الذي سمم أجواء الديموقراطية.
وهم يرون أيضا أنه فتح ثغرة أتاحت لإسلاميين أكثر تشددا استغلال هيمنة حزبه على مقاليد الأمور بعد 2011 للتسرب إلى كل مفاصل الدولة، وهو ما تنفيه حركة النهضة.
ثورة
كانت سلطة الحكم بعيدة كل البعد عن جذور الغنوشي الممتدة في حركة إسلامية محظورة في ثمانينيات القرن الماضي عندما صدر عليه حكم بالسجن مرتين ثم اضطراره للعيش في المنفى لأكثر من 20 عاما في ضاحية إيلينج بغرب لندن بعد اتهامه بمحاولة قلب نظام الحكم.
وأثناء وجوده هناك خففت الأفكار الديموقراطية من أيديولوجيته وربطته صداقة بالزعيم الإسلامي التركي رجب طيب إردوغان.
وعندما انتفض التونسيون على الرئيس زين العابدين بن علي في كانون الثاني 2011، عاد الغنوشي إلى وطنه. هبط على أرض تونس بعد أسبوع من فرار بن علي، وتجمّعت لاستقباله حشود مبتهجة.
امتلأت صالة الوصول بالآلاف من مؤيديه، وتسلق بعضهم الأسطح ووقفوا على الأعمدة المخصصة للافتات كي تتسنى لهم زاوية رؤية أفضل، وهم يرددون هتافات التأييد ويذرفون دموع الفرح.
وعندما غادر الرجل الذي غزا الشيب رأسه وكان يضع حول عنقه وشاحا أحمر البناية بينما تتدافع الحشود من حوله، أخذ مكبرا للصوت واستحثهم قائلا "واصلوا ثورتكم".
فاز حزب النهضة بأكبر عدد من المقاعد في أول انتخابات حرة تجرى في تونس بعد ذلك بتسعة أشهر، مما أطلق العنان لمناورات حثيثة بين الفصائل المتنافسة مع تزايد الخلاف بين الإسلاميين والعلمانيين.
ولم يترشح الغنوشي لأي منصب عام إلا بعد سنوات، وهو نهج يميزه عن جماعة الإخوان المسلمين في مصر التي فازت في انتخابات رئاسية في غضون 16 شهرا بعد الانتفاضة وما لبثت أن أزاحها الجيش عن السلطة.
لكن الغنوشي ظل الشخصية الرئيسية وراء حركة النهضة التي أخذ نفوذها يتزايد.
ومع زيادة الانقسامات في 2013 وامتدادها إلى الشوارع، خشي الكثير من أهل تونس أن يتفجر في البلاد أيضا ذلك العنف الذي شهدته ليبيا المجاورة عقب ثورتها.
وعمل الغنوشي ورئيس علماني على تهدئة الشارع، وكان ذلك بمثابة نقطة انطلاق لوضع دستور جديد أقره البرلمان في جو من البهجة وأيده السياسيون المتنافسون باكين.
وقال إن التونسيين نجحوا في القيام بثورة سلمية وتجنب حرب أهلية وتوصلوا إلى توافق.
لكن بالنسبة للبعض... لم تكن التسويات مُرضية.
فقد اتهم معارضو الإسلام السياسي الغنوشي بغض الطرف عن الجهاديين التونسيين الذين تدفقوا للانضمام إلى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا ونفذوا اغتيالات في الداخل، وهو أمر نفاه الغنوشي.
كما انتقد العديد من أنصار الغنوشي قراره دعم قانون مثير للجدل يمنح العفو لمسؤولين متهمين بالفساد في عهد بن علي. وقال زعيم حركة النهضة حينها إنه يرى بصفته ضحية سابقة للإقصاء السياسي أن تونس الجديدة يجب أن تحتوي حتى أولئك المرتبطين بالنظام القديم.
لكن مع تعثر الاقتصاد وتدهور الخدمات، ارتبطت حركة النهضة بسياسات لم تلق قبولا شعبيا.
في الوقت ذاته، سعى الغنوشي إلى إبعاد صورة الإسلام السياسي عن حركته التي وصفها بأنها حزب ديموقراطي ذو مرجعية إسلامية وفصل مهمتها السياسية عن أنشطتها الاجتماعية والدينية.
وعندما ترشح الغنوشي للمرة الاولى لشغل منصب عام في الانتخابات البرلمانية سنة 2019، كان أداء حركة النهضة هو الأضعف منذ سنوات إلا أنها كانت لا تزال الحزب الأكبر مع حصولها على حوالي ربع المقاعد.
وفاز بمنصب رئيس البرلمان، لكن مع انقسام هذه المؤسسة ووجود اضطرابات داخل النهضة ومع تنازع الزعماء السياسيين أصبح الغنوشي أشبه بأسد عجوز في مأزق.
كان صوته وهو جالس على المنصة الخشبية الحمراء مخاطبا أعضاء البرلمان الجالسين على مقاعدهم الجلدية الخضراء خافتا في كثير من الأحيان وكانت يداه ترتعشان بينما كان منافسوه يتحدونه أو يحاولون الإيقاع به.
وبعد مرور عام على إصدار قيس سعيد أمرا بأن تطوق الدبابات البرلمان وتُغلق أبوابه، بات إرث الغنوشي نفسه على المحك.