تزداد وتيرة الملاحقات أمام القضاء ضد صحافيين وشخصيات عامة في تونس، مستندة الى مرسوم رئاسي لمكافحة التضليل الإعلامي. ولكن تداعياته "تهدّد" حرية التعبير و"ترسّخ الرقابة الذاتية"، بحسب مدافعين عن حقوق الإنسان واختصاصيين.
وأصدر الرئيس التونسي قيس سعيّد في 13 أيلول 2022 مرسوما رئاسيا عُرف ب"مرسوم 54" وينصّ على "عقاب بالسجن لمدة خمسة أعوام" وبغرامة تصل الى خمسين ألف دينار "لكلّ من يتعمّد استعمال شبكات وأنظمة معلومات واتصال لإنتاج، أو ترويج، أو نشر، أو إرسال، أو إعداد أخبار أو بيانات أو شائعات كاذبة أو وثائق مصطنعة أو مزوّرة أو منسوبة كذبا للغير بهدف الاعتداء على حقوق الغير أو الإضرار بالأمن العام أو الدفاع الوطني".
كذلك، يعاقب كلّ من يتعمّد استعمال أنظمة معلومات لنشر "شائعة أخبار أو وثائق مصطنعة أو مزوّرة أو بيانات تتضمّن معطيات شخصية أو نسبة أمور غير حقيقية بهدف التشهير بالغير أو تشويه سمعته أو الإضرار به ماديا أو معنويا أو التحريض على الاعتداء عليه أو الحثّ على خطاب الكراهية".
وهناك عقوبات أقسى إذا كان الشخص المستهدف موظفا حكوميا.
ويقول نقيب الصحافيين التونسيين زياد دبّار إن أكثر من ستين شخصا، بينهم صحافيون ومحامون ومعارضون، تعرّضوا خلال عام ونصف لملاحقات قضائية بموجب "المرسوم 54".
واعتبر دبّار أن المرسوم "يأتي بنتائج عكسية ولم يتم تطبيقه مطلقًا في قضايا الهجمات الإلكترونية".
ويؤكد الصحافي هيثم المكي أنه "تمّ إصدار هذا النص لتكميم الأصوات غير المرغوب فيها من جانب السلطة، وهو ما يفسّر الملاحقات القضائية المتعدّدة التي رُفعت فقط ضد أشخاص انتقدوا السلطات".
ويُلاحَق المكي بدوره بموجب هذا المرسوم لنشره تدوينة عن حالة بيت الموتى بمستشفى بمحافظة صفاقس (وسط)، إثر شكوى تقدّمت بها المؤسسة الصحية.
ويعتبر المكي أن هذا التشريع "نجح في تخويف الدوائر الإعلامية والمساس بشكل كبير بحريّة التعبير".
ويتابع "لم نعد نجرؤ بعد الآن على انتقاد الرئيس. ولا أحد يجرؤ على انتقاده بشكل ساخر، بينما كنّا في مرحلة معينة نمثّل كل المسؤولين في الدولة على شكل دمى".
كانت حرية التعبير أحد أهم المكاسب الرئيسية لثورة 2011، حتى تاريخ احتكار الرئيس التونسي قيس سعيّد في تموز 2021 جميع السلطات. منذ ذلك الوقت، تتزايد انتقادات المنظمات غير الحكومية والمعارضين للتنبيه الى تراجع الحريات في البلاد.
ووفقاً لمنظمة "هيومن رايتس ووتش"، تستخدم السلطات التونسية هذا المرسوم "لترهيب مجموعة واسعة من المنتقدين".
ويضيف المكي "نحن نعلم أن أي شخص لا يُرضي السلطات سوف يكون مستهدفا بهذا النص، وهذا ما يثقل كاهل الناس الذين أصبحوا يخشون تبعات هذا المرسوم".
- "رقابة ورقابة ذاتية" -
ويرى الأستاذ الجامعي في علوم الإعلام والاتصال الصادق الحمّامي أن "هذا المرسوم لم يخصّص على الإطلاق لمكافحة التضليل والأخبار الكاذبة"، بل "يستهدف بشكل خاص شخصيات عامة وسياسية"، بسبب مواقفهم السياسية.
وفي تقديره "المناخ الحالي يحبط عزيمة الإعلاميين ويخلق مناخا من الخوف والرقابة والرقابة الذاتية".
ويقول مقدّم البرامج التلفزيونية الاستقصائية حمزة البلومي لوكالة فرانس برس "يخشى الناس اليوم التعبير عن أنفسهم حتى لا يتعرّضوا لتداعيات المرسوم 54".
ويقدّم البلومي برنامجا أسبوعيا بعنوان "الحقائق الأربع" يحقّق في حالات فساد أو مواضيع اجتماعية حسّاسة استنادا الى شهادات أشخاص "كانت لديهم الشجاعة للتحدّث، لكنهم أصبحوا اليوم أكثر تردّدا، إن لم نقل مراوغين. إما أنهم لا يقبلون الكلام أو يطالبون بضمانات عدم الكشف عن هويتهم".
ويضيف أنه حتى ولو "كانت في البداية فكرة إصدار هذا النص بدافع حسن النية، فإن توظيفه سيّء. لقد أصبح أداة لتقييد التعبير".
ونتيجة لذلك، "انخفض عدد التقارير التي كنت أرغب في إنجازها بشكل كبير" في مواضيع معيّنة. وبالنسبة له، "الصيغة الحالية لهذا المرسوم تضرّ كثيرا بصورة البلاد، وتضرّ جدا بحرية العديد من التونسيين"، الأمر الذي يتطلّب مراجعته.
لكن الرئيس قيس سعيّد يردّد في خطاباته أن "الحريّات مضمونة" في بلاده.
في نهاية شباط الفائت، قُدّم إلى مكتب البرلمان طلب لتعديل المرسوم لا سيما المادة 24 منه وقد وقّع عليه أربعون نائبا، لكن "رئيس المجلس عرقل" دراسته، بحسب نقيب الصحافيين.
ويستنكر الناشط السياسي والمحامي العياشي الهمامي الملاحق منذ كانون الثاني بموجب هذا النص بعد مداخلة إذاعية حول وضع القضاة في البلاد ما يعتبره "استغلال القوانين لضرب الأصوات المعارضة بقوة وإزاحتها جانبا وتخويف التونسيين".
بينما يشدّد النائب المستقل محمد علي على أنه "حان الوقت لمراجعة هذا المرسوم، خصوصا مع اقتراب الانتخابات الرئاسية (المقرّرة نهاية العام الجاري)، والتي تتطلّب أكبر قدر ممكن من التضامن الإعلامي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي".