الأحد - 08 أيلول 2024
close menu

إعلان

الحقيقة رقم 5: حالتنا مش منيحة... ألكسندر

المصدر: النهار
ايسامار لطيف
ايسامار لطيف
الحقيقة رقم 5: حالتنا مش منيحة... ألكسندر
الحقيقة رقم 5: حالتنا مش منيحة... ألكسندر
A+ A-
في محلّة الكرنتينا الشعبية التي شهدت حروباً عدّة، تقطن عائلة بتروني التي عاش ربّ العائلة فيها الحرب وكان ممن دافعوا عن أرضهم ووطنهم حتّى الرمق الأخير. عند النظر لأول مرّة للمبنى حيث يسكنون، يُخال لكم أنّه حديث ولم يمرّ عليه تاريخ طويل من الدمار والحروب وثالث أقوى انفجار في العالم. 


تُحاكي جدران المبنى حكايات شهداء نزفوا حبّ الوطن بدماء طاهرة وبريئة، آخرها كان انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب الذي لم يمر مرور الكرام على الأطفال خاصة، بل ترك أثراً لا يمكن إزالته بمداعبة شعر أو قطعة حلوى. فكيف لهؤلاء الملائكة أنّ ينسوا دمار المدينة ودماء سكّانها؟ كيف لمن يخشى النوم في الظلام أنّ ينسى خوفه على خسارة والديه وصراخ الجيران وانهيار المباني؟


بعد مرور عام على الجريمة المروّعة لا تزال ذاكرة الأطفال صاحيةً أكثر من ضمائر الحكّام. كلّما نظرنا إلى عيونهم عاد إلى أذهاننا ذاك اليوم المشؤوم بحذافيره، كأنّهم يقولون لنا بصمتهم البريء: لا تنسوا!
 
ألكسندر بتروني طفل زعزعته الكارثة التي حلّت بالعاصمة وغيّرت فيه الكثير. أثناء زيارتنا لمنزله بعد الحادثة كان كلّ شيء طبيعياً، البيوت والجدران والزجاج وكأنّ ما من فاجعة وقعت في ذلك الحيّ الذي شهد الحرب الأهلية وغيرها من الاعتداءات، إلّا أنّ ثمّة أمراً ما استطعنا استخلاصه فور رؤية ألكسندر.


في محلة الكرنتينا، كانت تانيا بتروني (الأمّ) تجلس مع ولديها في غرفة الجلوس في منزلها لحظة الانفجار. تقول لـ"النهار" مستعيدةً ما جرى: "شعرت كأن الطائرة فوق رؤوسنا فعاد مشهد الحرب الدامية إلى مخيّلتي وكلّ ما أردته هو حماية أطفالي".
 
تجمّد ألكسندر في مكانه لثوان لحظة الانفجار، ولم يقو على التحرّك. حين رأى الدماء تسيل من وجهه جرّاء الزجاج، أصابته صدمة وبدأ يصرخ ويرتجف، وجحظت عيناه نحو والدته كأنّه ينتظر تفسيراً لما حدث.
 
"ماما ما بدّي موت... وين البابا؟"، هذه كانت الكلمات الأخيرة التي تلفظّ بها ألكسندر قُبيل الانفجار بثوانٍ، بعد سماعه صوت طيران مرعب أثناء مشاهدته التلفاز. طفل الـ١٠ سنوات كان خجولاً ومرتبكاً، ينظر حوله في استمرار والدمعة تكاد تقفز من عينيه الصغيرتين عند سؤاله عن الانفجار. فتارةً ينظر إلينا وطوراً يلتقط يد والدته، كأنّ المشهد يتكرّر أمام ناظريه. لعلّه بهذه الطريقة يجد الأمان الذي فقده في الرابع من آب. 
 
في البداية، كان كتوماً يرفض البوح ويكتفي بعبارة مرتجفة "إيه خفت كتير". لاحقاً راح يسرد لنا تفاصيل الجريمة لنستعرضها معا. 
 
تقول والدة ألكسندر إنّها كانت في المطبخ تُعدّ له الطعام في انتظار قدوم والده، فيما كان أخوه الصغير يلهو في الغرفة المجاورة، فسمعت أصواتاً غريبة شبيهة بقذائف الطيران الإسرائيلي أثناء الحرب، وسارعت لضمّ ولديها وما هي إلّا لحظات حتّى سمعوا دوي الانفجار الأول ومن ثمّ الثاني الكبير.

أخبرنا ألكسندر بصوت خافت أنّه "كان يستطيع الركض في اتّجاه الحديقة المجاورة للمنزل والاختباء هناك، إلّا أنّ خوفه على ذويه منعه من التفكير بأنانيّة. للحظة خلنا أنفسنا أمام رجل كبير يتحدّت عن العائلة والمسؤولية والحماية، مفضلاً الموت على ترك أخيه الصغير وأمّه رهينة انفجار لا ذنب لهم فيه سوى انّهم اختاروا البقاء في بلد سبّب بدمارهم نفسياً وإصابتهم. 
 
لا يزال ألكسندر حتّى اليوم يخشى الأصوات العالية والجلوس بمفرده، متمنياً ألّا يتكرّر ما حدث كي لا يتضرّر أحد من أحبائه. اليوم، يتخذّ هذا الطفل من البحر صديقاً له حيث الهدوء والطمأنينة.
 
"شو ذنب الطفولة"
لعلّها من أصدق الأغاني التي مرّت على مسامعنا! من عايش الحرب يعرف جلّياً معنى الدمار والدماء، إلّا أنّنا اليوم نعيش ما هو أسوأ من الحروب الساخنة، فنحن داخل حرب باردة اقتصادية ونفسية تضغط علينا من كلّ الجهات وما كان ينقصنا سوى انفجار المرفأ الذي دمّرنا معنوياً.


بحزن ولوعة وخوف من المجهول، توجّه ألكسندر إلى المحقّق العدلي طارق البيطار طالباً إيّاه محاسبة الفاعل كي لا يتكرّر ألمه مرة أخرى، مردّداً عبارة: "ما بدّي موت".
 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم