السبت - 07 أيلول 2024
close menu

إعلان

فصل من رواية كثور هائج كان يستفرد بواحدةٍ منا تلو الأخرى

المصدر: "النهار"
إبرهيم اليوسف
فصل من رواية كثور هائج كان يستفرد بواحدةٍ منا تلو الأخرى
فصل من رواية كثور هائج كان يستفرد بواحدةٍ منا تلو الأخرى
A+ A-

أعترف، أن ما دوّنته، على ألسنة إيزيديي شنكال، وبعض الشهود العيان، جاء انتقائياً، إذ اخترت أبرز ما لفت انتباهي من أحاديث هؤلاء. الكتابة عن مأساة هؤلاء- وهي الصورة المكثفة عن مأساة العصر- تستدعي تخصيص مجلدات عن مجرد برهة من المعاناة على أيدي أولاء المجرمين، الفتاكين. لقد سمعت الكثير أثناء زياراتي لمخيمات ايسان، وشيخان، ومام رشان، وشاريا، وخانك، وباجد، وكندالة، وجم مشكور، وبير بيرسفي، وداودية، ومامليان، بالإضافة إلى من التقيتهم خارج هذه المخيمات. كانت تلك الحكايات رهيبة، تهتز من جراء سماعها الجبال. 

الحكاية التي روتها لي همرين كانت تقطر فجائعية. إذ قالت: تم اختياري وستّ فتيات أخريات، وللأمانة العلمية تم اختياري وصديقتي المتزوجة وخمس فتيات أخريات لنكن أمات أحد الأمراء الكبار. عرفن أخيراً أنه كان باكستانياً. لقد كان يتحدث بعربية فصحى. يغلق علينا الباب، ثم يمضي، لا ندري إلى أين. قد يتأخر أسبوعاً أو أكثر، من دون أن يمر أحد علينا، وغالباً ما تنفد المؤونة الموجودة، وننتظر مجيئه، من دون طعام، أو شراب، وفي ظروف بائسة. حيث لا نكاد نرى الكهرباء أكثر من مرتين في الأسبوع.

عرفنا، في البداية، أنه أحد الأمراء الكبار- فحسب- لأنه استطاع أن يحصل علينا كلنا، يأتي بنا بسيارة- حديثة- يمضي ليلته بيننا. يطلب منا أن نتعرى، ثم يستفرد بنا واحدة تلو أخرى، كثور هائج. بينما نغثي، مستفرغات ما في معدنا، كلما داعب إحدانا. لم يعترف لنا باسمه الصحيح، حين سألناه، ذات سهرة رعب أخيرة. قال: أنا أبو ترياق الباكستاني.

كان قبيح المنظر، سميناً، يشبه بغلاً. أجرب، قالت إحدانا ذات مرة في غيابه: إنه يزن مئتي كيلو غرام. كان شرهاً. نعدّ الطعام، فيجهز عليه، ولا يكاد يبقي لنا أي شيء، من دون أن يرف له جفن. قلت له: أو تعتقد أننا فئران، ونعيش على التراب، أهكذا تعامل زوجتك أم ترياق؟

صفعني على وجهي. انتفخ خدي، وازرق، وظننت أن أسنان فكي اليسرى كلها سقطت. رد عليَّ:

أنتنَّ أمَّات- أي عبدات. أفهمت؟- أنتنّ سبايا. ألم يقل لكنّ أحدهم في السجن. قلت له: أنا لم أسلم، لكن منا من أسلمت، فكيف تعاملهن كأمات؟!

اشتد بنا الجوع. ذات مرة حاولت أن أتحدث إلى الحارس الذي يقيم في كرفانة صغيرة على الباب. قلت له:

نحن نتضور جوعاً.

لم يفهم ما قلته له. رد عليَّ بلغة لا أفهمها. أفهمته بالإشارات أننا جائعات. وجّه إليَّ سبطانة الرشاش. لكنه لم يطلق النار، فعدت القهقرى.

كنت أتمنى لو يقتلني. إنه جبان. كان ممكناً أن يختلق مسوّغاً لقتلي، كأن يقول: لقد حاولت أن تهرب. مرافقاه الليبي والسعودي قالا لنا: أعطينا الحارس أوامر بقتل كل من تحاول الهرب

إحدى صديقاتي قالت: فلنرم بأنفسنا من سطح العمارة. خفنا ألا نموت، فالمبنى من طابقين فقط، وفيه أكثر من خمس عشرة غرفة. يبدو أن أهله تركوه. إن لم نمت فسنصبح في مشكلة أكبر.

كانت أصوات الرصاص لا تتوقف في القرية. طالما تمنينا لو أن قذيفة تنزل فوق المبنى وتقضي علينا كلنا.

هذه المرة. تأخر الباكستاني عشرين يوماً متتالياً. كانت الأبواب مغلقة علينا. فجأة وجدنا البيت امتلأ بهؤلاء الأشباح القميئين، النتنين. راحوا يتوزعون على غرف المبنى. كانت أعدادهم تفوق المئة شخص. سألونا عن الطعام فقلنا لهم: ليس لدينا أي طعام، وها نحن نذوي ونكاد نموت. لم يأبهوا بكلامنا. وزّعونا على غرفهم. ليلتهم مرَّ عليَّ أكثر من ثلاثين واحداً. أغمي عليّ. أغمي على بعضنا. تمنينا الموت. فكرنا أن نصعد أعلى المبنى ونرمي بأنفسنا. كانت أيام الباكستاني العجاف أفضل من الآن، فقد كان يغادرنا، في إجازات تستغرق أسبوعاً، أو أكثر. أما الآن، فإن العمارة أصبحت أشبه بثكنة عسكرية. يغادرها بعضهم، ويقيم فيها بعضهم الآخر. صار للعمارة مجموعة حراس، بدلاً من الحارس الواحد. تغيير إيجابي واحد تم، وهو أنه بات لدينا طعام، ومؤنة، وشراب، وبعض أنواع العصائر. لكننا تحولنا إلى عاملات مطعم، نعمل ليلاً ونهاراً. نعدّ الوجبات الثلاث لهم. يأتينا بعضهم خارج أوقات هذه الوجبات. بل إن من بينهم من يطلب القهوة والشاي، على امتداد ساعات الليل والنهار. لم نعد نجد فرصة للنوم، ومتى ما انتهينا من خدماتهم، تفاجأنا بأنهم يسحبوننا إلى غرفهم، ونحن عاريات، يفرغون في فروجنا شهواتهم بما لا تقبله الوحوش والحيوانات.

ذات مرة سحبني أحدهم إلى غرفته، وكان سورياً، سألته: وأين الأمير الباكستاني؟ قال:

لقد قتله حارسه الإيزيدي الذي أسلم، وقتل نفسه. اللعنة على ذلك المرتد الكافر. فرحت جداً للخبر الذي سمعته، ولم أصدق أن أنجو من بين يديه حتى أخبر البنات. قلت لخبات، وكانت أكثرنا حكمة، وبعد نظر:

ماذا نفعل، لنتخلص من هؤلاء؟

قالت: نحن حتى الآن، لا نعرف في أي بلد. في أية مدينة نحن. كنت أفكر بأن نؤمّن قليلاً من سم الفئران، ندسه في طعامهم. عسى أن نتخلص ممن سيتناولون الوجبة، ولنأكلها معهم، لنضع حداً لمأساتنا. أعجبتني الفكرة، وصرت أفكر بطريقة ما كي نطلب منهم تأمين سموم الفئران لنا، بذريعة أن البيت امتلأ باليرابيع، والفئران، والحشرات، ولكن دون جدوى.

ساورنا بصيص من الأمل، للمرة الأولى، منذ أشهر، على وجودنا هنا، عندما جمعونا ذات صباح وقالوا لنا: يوجد ضيوف. أعدّوا لهم القهوة، وسيقابلونكن. في البداية توهمنا أنهم سيعيدوننا إلى أهلنا. فالأمير الباكستاني طالما قال لنا: إن وجدنا سيركنّ حميدة هنا، فإننا سنعتقكن، ونسمح لكن بالعودة إلى أهاليكن. بعد أن قدمنا القهوة للضيوف، وجدنا أنهم مختلفون عنهم. كانوا أربعة. لم يطلب أحد منهم الاختلاء بنا. أجلسونا معهم حول الطاولة، وصاروا يشرحون لنا، كيف نعد السترات والأحزمة الناسفة والمفخخات. اقشعر بدني، وأنا أرى كميات كبيرة من المسامير وبرادة الحديد والـ "تي إن تي" وعددا كبيرا من الصواعق على الطاولة. شرحوا لنا آلية التفجير. قالوا: الانتباه والحذر يعنيان السلامة. ثم قال أحدهم: الفشل يعني أن تنفجر بنا المفخخة بدلاً من الكفرة، أعداء الله. وقال آخر: لا تنسين فإن لكن وأنتن تعدن هذه الأحزمة ثواب المجاهد الشهيد. تركوا لنا بعض الأدوية وقالوا: لا بد من أن نعلمكنّ على الإسعافات الأولية

أشارت صديقتي إليَّ وقالت لهم:

إنها أتبعت دورة للتمريض في شنكال.

إذاً، درّبي زميلاتك أيضاً على ذلك!

أشرفوا علينا ونحن نبدأ بإعداد الأحزمة. كنا نعمل ببطء، في البداية، إلا أننا صرنا نتقن العمل. كان شعوري غامضاً، فأن نشارك في أن ينفق أحد هؤلاء، فهو أمر محمود، غير أننا في الوقت نفسه نشارك، من حيث ندري ولا ندري، في إنجاز ما يريدون ليتم قتل العشرات، أو ربما المئات، بوساطة كل حزام. قال المهندس الكبير، قبل أن يغادرنا: لا تنسين أن البيت مزروع بالكاميرات. أي خطأ يبدر منكن فسنعدم أسرى أسركن جميعاً. حيواتهم متوقفة على مهاراتكن، وإخلاصكن. ثم همَّ بالمغادرة، وهو يقول:

نريد منكن سبعين حزاماً كل يوم!

كان من الممكن أن نرتدي الأحزمة، ونفجر أنفسنا، وكل من في المبنى، لكن الأمر لم يعد يتعلق بنا، وإنما بات يتعلق بذوينا. لقد رأينا بأمات عيوننا أن أهالي جميعنا قد أسروا معنا، قبل أن يتم فرزنا لمرات عدة، ويختارونا لنأتي إلى هذا المكان.

لم نعد نجرؤ على التحدث إلى بعضنا. إذ تأكدنا أن العمارة مزروعة بالكاميرات التي تصور حركاتنا وأصواتنا. صديقتي الحكيمة قالت:

أرى أن نضع حداً لهذه المأساة!

لم أرد عليها. بعد ساعة، جاؤوا إلى البيت، وأخذوها، ولم تعد إلينا. كان أخذها رسالة لنا، لنذعن، ونكون مجرد منفذات لما يطلبونه منا. هذه الأحزمة ستقتل أهلاً لنا. كان ضميري يؤنبني. بتّ أحس أن كل هذا الديناميت الذي ننزعه في بطائن الأحزمة بات في داخلي، وهو في انتظار صاعق ما.

في صباح اليوم التالي، باتت أصوات القذائف تتعالى، وتبدو قريبة منا. خرج بعض هؤلاء إلى سطح المبنى، ونزل آخرون منهم إلى القبو، واختفوا. ثمة أصوات بتنا نسمعها:

أيها الدواعش سلِّموا أنفسكم.

كانت الأصوات تصدر من جهاز ميكروفون، يبدو المتحدث واثقاً من نفسه، وهو يهددهم. ثم دوّى صوت قذيفة استهدفت أعلى المبنى، فانهار. نظرت حولي، فإذا بنا الإيزيديات الست وحدنا. أما هؤلاء فلا أثر لهم. بعد قليل دخل بضعة أشخاص يرتدون الملابس العسكرية، ورشقوا النار في كل مكان. أصابتني رصاصة في قدمي، وسقطت اثنتان من صديقاتي وهما مضرجتان بالدم:

قال أحدهم انتبهوا فإن هنا نساء إيزيديات!

قال الآخر: هذا البيت من أخطر بؤرهم في الفلوجة.

أشرت لهم أن ينزلوا إلى القبو. ثم ركضت تجاه زميلاتي أحاول ان أفعل أي شيء. خطر في بالي أن أجري للجريحات منهن بعض الإسعافات الأولية. رمى أحد العساكر قنبلة في المكان، ثم أتبعها بقنابل أخرى. وراحوا يتابعونهم. العالم كله في تلك اللحظة بات يدوي. سقط الجزء الشمالي من البيت، ولم يبق لنا إلا مجرد حائط. رحت أسحب إحدى صديقاتي من تحت الأنقاض. بعد أن تأكدت من استشهاد ثلاث منهن. كانت تنظر إلي، ولا يبدو غير رأسها. اقترب أحد العساكر ليساعدني فلم نستطع. أحسست بيدي اليسرى ثقيلة، نظرت فيها، حاولت تحريكها فلم أتمكن من ذلك. كان الدم ينزل منها. أدركت أنني أصبت برصاصة في ذراعي من دون أن أعلم. خرج العسكري إلى الشارع، ليدخل معه عدد من الجنود. وبدأوا بسحبها. كانت لا تزال حية. لكن الدم كان ينزف من كل مكان.

كم عددكن؟

سألني أحدهم بالكردية.

نحن ستّ.

أحسست بالطمأنينة. إنهم البيشمركة ومعهم مقاتلون من الجيش العراقي.

إذاً، هناك اثنتان أخريان؟

نعم، قلت، وأنا أبكي، وأتوسل إليهم أن يخرجوهما، ويسعفوا صديقاتي.

جاءني الضابط وقال: لا تقلقي ها أنت بخير، وسنسعف صديقاتك.

قلت وأنا أبكي بجنون: لكن اثنتين منهما قتلتا واثنتان منا تحت الأنقاض. إنهما هنا. وأشرت إلى مكان وجودنا في اللحظات الأخيرة قبل سقوط القذيفة.

قلت له:

انتبهوا هنا كميات من الـ"تي إن تي" وأشرت إلى غرفة العمليات في الجهة الغربية.

مسد رأسي. وأشار إلى السائق أن يمضي بي وبصديقتي إلى المشفى، وهو يقول:

أزوركما، ما إن ننتهي من تطهير النفق تحت العمارة من هؤلاء الإرهابيين.

كان هو نفسه من رافقنا في الطائرة التي نقلتنا إلى بغداد. ظللنا هناك أسبوعاً، كي تعود بنا الطائرة نفسها إلى هولير.

الطائرة أرسلت من حكومة إربيل خصيصاً لكما.

ما أخبار صديقاتنا؟

إنهن في مشفى آخر يعالجن.

أشار الضابط إلى عدد من الجنود أن يرفعوا الأنقاض. وقال لي، مخففاً عني صدمتي:

ستكون كل رفيقاتك بخير، لا تقلقي!


* فصل من رواية "شنكالنامة" تصدر في مطلع 2018



الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم